أقلام مسمومة

سبتمبر 14, 2024 - 15:57
أقلام مسمومة

بقلم: برهان السعدي  

     يشكل الفكر والثقافة أهم المنطلقات لوجود الثورات وحركات التحرر الوطني، ومجرد الاستشعار بالظلم يمكن أن يؤدي إلى استمرائه، والتعايش معه، فيأتي دور المفكرين والكتاب والمثقفين ليحولوا هذا الشعور الصامت بالظلم واستمرائه إلى براكين غضب، تهز أركان قوى الظلم المهيمنة على الأمة أو الشعوب. والأمر غير مرتبط بمسحة كاهن، أو قرص علاج، إنما بتحفيز الناس للثأر من مستعمريهم، مصاصي دمائهم وخيرات بلادهم، فيكون الأدب المقاوم، والأغنية المقاومة، والكلمة المقاومة، التي لا تفرغ الشحنات المكبوتة وتحولها إلى استكانة طوعية لقبول المستعمر المحتل، أو الغاصب لثروات البلاد، المتمتع بجغرافيتها ومواردها وبحرها وأجوائها، فيقيم القواعد العسكرية، ويجند طاقاتها في حرب أعدائه، فبريطانيا لم تستعمر بلادنا العربية أو الهند بجنودها الإنجليز، إنما بجيوش عربية أو غيرها من الدول التي استعمرتها.

     وحرصت القوى الاستعمارية على تجنيد أقلام مثقفي كثير من الدول التي خضعت لحوزة هيمنتها، تجنيدا لم يقتصر على ارتباط بدوائر أجهزتها الأمنية مباشرة كعملاء، إنما نشرت مفاهيمها من خلال تشريب المثقفين من تلك الدول مفاهيم التنوير والحضارة ومحاربة التخلف، فكانت النتيجة تعبيد الطرق وفتح المدارس وربط العقول والأقلام بمشارب تلك الدول الاستعمارية، وبالتالي يمكنها محاصرة ظواهر الانفلات من الظلم بقوالب تدجينية.

     ورغم ذلك، فقد حصلت حركات التحرر الوطني في كثير من الدول، وحقق بعضها أو كثير منها الاستقلال الوطني، إلا أن الاستعمار ربط طبقة من المثقفين والكتاب بمشاربهم ليمثلوا سياسته التدميرية لبلدانهم بالوكالة، وربما يمارسون دورهم هذا باعتقادهم واهمين أنهم ينشرون القيم الديمقراطية والحريات لبناء مجتمعات راقية، والتأسيس لاقتصاد قوي.

     والاحتلال الإسرائيلي، لم يخرج عن هذه المفاهيم، لكنه طوّر الأدوار، حيث شكل مراكز بحث عديدة، ودوائر علمية مهنية متخصصة لتطوير أدوات انقضاضهم على المجتمع الفلسطيني، وإفقاده هويته الوطنية، وتحطيم تماسكه الاجتماعي، بالتركيز على تعطيل دور الأسرة والمدرسة، وتسخيف مفاهيم وقيم اجتماعية تشكل جميعها مراكز قوة في بناء وحماية المجتمع الفلسطيني. ولخدمة أهداف الكيان الغاصب لوطننا، فقد عملت أجهزته الأمنية على تطوير أعمالها لتوسيع التأثير الهدمي أفقيا وعموديا، ومن بين وسائلها تشكيل كتيبة 8200 التي يتشكل أعضاؤها من متدربين يتقنون العربية وعادات العرب، وعلى دراية بطبيعة المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية، فيتقاسمون الأدوار بين متعصب لفلسطين وآخرين متعصبين للأردن لإحياء النعرات بين فلسطيني وأردني، أو بين متعصب لحركة حماس ومكفر لغيرها من أفراد السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وحركة فتح، أو متعصب للسلطة الفلسطينية وحركة فتح، لتعزيز الانقسام الحاصل، تحت مسميات عديدة، وتعصب بين سني وشيعي، أو بين قطر عربي وآخر. وهذه بالمحصلة لا تخدم سوى الاحتلال وترسيخه.

     والكارثة التي نواجهها يوميا وعلى مدار الساعة، في مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة كانتشار النار في الهشيم، التحزب حول فكرتين متعارضتين ومتناقضتين، تتناصبان العداء كثارات قديمة بينهما، يهون عليهم الصراع مع المحتل لصالح تجنيد أقلامهم وأفكارهم للنيل من هذا الفريق أو ذاك.

     فتجد موقعا يحمل تسمية براقة، وحدوية، مناصرة للمقاومة، معادية لأية أجندة تخرج عن هذه السياقات. وبمتابعة أقلام كاتبيها، تصل إلى مرحلة التقزز من مواصلة قراءة ما ينشرون، بدعوى الحرص على المقاومة في غزة ومخيمات شمال الضفة الغربية أو أي موقع كفاحي آخر حسب مقاييس تلك الأقلام. فهم يقتنصون أي شعار أو تصريح أو خبر للانقضاض والهجوم من باب تأكيد قناعاتهم بالتخوين، وتكفير الأفراد العاملين في السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، واعتبار أن أي عضو له دور في مؤسسات حركة فتح، أنه عباسي، يخدم الاحتلال، ويحق مطاردته وشيطنته. وفي المقابل هناك صفحات لمؤيدي السلطة الفلسطينية تروج مفاهيم عدائية، وتعتبر أن سبب تدمير غزة هو ما قامت به حركة حماس في السابع من تشرين أول عام 2023م.

     وإذا تناول أحدهم خبرا، فيه شيء من المغالطة في المعلومات، فإنهم يشتاطون غضبا لمخالفتهم، بتوجيه أسلحة نقدهم الحمقاء بأن هذا الطرح يدور في خدمة الفاسدين أو الاحتلال.

     لللأسف، هذه أقلام مسمومة، تعمل بوعي أو غير وعي على تفسيخ المجتمع الفلسطيني، وباسم التعصب للمقاومة، تدفع إلى قتل شباب فلسطين دون مقابل، ويحرصون بأفكارهم على ذلك، وكأن ما يعتقدونه قرأن، وكل مساس به كفر وشيطنة. ورحم الله الشهيد صلاح خلف "أبو إياد" الذي قال أن المتطرف يكون إما أحمق أو عميلا لأجهزة أمن العدو.

     والمتابع لمواقع التواصل على الساحة الفلسطينية يجدها بغالبيتها، إما مع تخوين السلطة الفلسطينية، والمناداة بقتل أفرادها، وضرورة توجيه السلاح ضدها، واعتبار نموذج غزة يجب أن ينسحب على الضفة الغربية، ومن يخالف هو ضد المقاومة، وفي جانب آخر، نجد مواقع تعادي حركة حماس أو المقاومين في غزة أكثر من معاداتهم للعدو الغاصب. وكلا النهجين يعيش الفعل وردة الفعل تجاه الآخر، وهذا لن يخدم فلسطين، أو وحدة مجتمعها، ولن يؤدي إلى وحدة برنامج سياسي أو وحدة القيادة الفلسطينية، إنما تتوافق بالنتيجة مع أهداف الاحتلال بتدمير أية كيانية للشعب الفلسطيني. والسلطة الفلسطينية بكل مساوئ نهجها هي كيان سياسي وإداري ومجتمعي فلسطيني، والتحريض ضدها يخدم هدفية الاحتلال، وهذا لا يعني تقديم التهاني والمباركة للنهج الخاطئ الذي تقوم به مؤسسات السلطة الفلسطينية والقائمين عليها، حيث يجب السعي بجدية لتطوير الأداء، وإيجاد برامج تتعامل مع المستجدات على الساحة الفلسطينية، كمقدمة ضرورية لكنس الاحتلال.

     والبعض يرى أن دوره الأعظم ومساهمته الجدية في تحرير الوطن من الغاصبين يكون بتوجيه أقذع الكلمات والشتائم للسلطة الفلسطينية ومعادة الأقلام الحريصة والتي تنتقد الحالة المعاشة في مخيمات شمال الضفة الغربية، فهو بشتائمه سيحمي الأقصى ويكنس الاحتلال. لا بد من عدم الانجرار لتلك الحماقات، وعدم الخجل من طرح الموقف الذي يخدم وحدة شعبنا ومقاومته وتطوير أدوات الفعل ضمن برنامج سياسي واحد، ومن خلال تصويب منظمة التحرير الفلسطينية كونها إطار وحدوي جامع لجميع مكونات الشعب الفلسطيني على أسس تخدم استراتيجية طرد الغاصب بكيانه الاستيطاني، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وحق العودة وتقرير المصير. وبكلمة، الاختلاف في الرأي ظاهرة صحية، إلا أن هناك ضوابط لا بد منها كي لا يتحول الاختلاف والرأي الآخر سلاحا لتدمير ما تبقى من آلة تدمير الاحتلال وخدمة أجنداته.