التعقيب على كتاب ملكة سبأ

د. ابراهيم غروف

أغسطس 14, 2025 - 19:44
التعقيب على كتاب ملكة سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

د. ابراهيم غروف

السيدات والسادة الحضور

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

يسرّني أن أشارككم في هذه الجلسة الفكرية الغنيّة، وأن أقدّم تعقيبي على كتابٍ متميّز، يجمع بين عُمق التفسير، ورؤية القيادة، وفنّ التحليل، في قراءة واعية لتجربة تاريخية مذكورة في كتاب الله — تجربة ملكة سبأ.

هذا الكتاب ليس تفسيرًا تقليديًا، بل هو رحلة في علم القيادة عبر بوابة القرآن الكريم. يأخذنا الكاتب من أول حرف في قصة الهدهد، مرورًا برسالة سليمان علية السلام، وحتى لحظة إعلان ملكة سبأ إسلامها، دون أن يغفل أي تفصيل يمكن أن يُستلهم منه درس في السياسة أو الإدارة أو النفس الإنسانية.

التعقيب على لغة الكاتب وأسلوبه:

أبرز ما لفت نظري:

1.   المنهج التدبري لا التقريري: الكاتب لم يقدّم استنتاجاته كمسلمات، بل سمح للقارئ أن يتفكر معه. وهذه ميزة نادرة في كتب القيادة التي غالبًا ما تقدم "وصفات" جاهزة.

2.   القراءة القيادية: لم تقتصر الدروس على البلاغة أو العقيدة، بل تحوّلت إلى خريطة قيادية يمكن لأي قائد أن يتّخذها مرجعًا: من أهمية التفقد والمساءلة، إلى آداب الحوار، إلى مهارة تأخير القائد لرأيه حتى يتحدث الجميع.

3.   ملكة سبأ نموذجًا متكاملًا: لم تكن الملكة في الكتاب مجرد شخصية تاريخية، بل ظهرت لنا كـ قائدة واعية، مثقفة، ذكية، متزنة عاطفيًا، تتجنب الحرب، وتحسن التفاوض، وتعترف بخطئها بشجاعة.

4.   مفهوم "رابح–رابح": حين يُنهي الكاتب كتابه بهذا المفهوم، فإنه لا يعلن فقط عن نهاية الصراع بين سليمان علية السلام وبلقيس، بل يُشير إلى قمة ما يمكن أن تبلغه القيادة: تحقيق الأهداف دون هدم الآخر.

5.   لغة الكتاب: جمعت بين العمق والبساطة. فيها حميمية الخطاب الشعبي حينًا، ودقة المفاهيم الإدارية والقرآنية حينًا آخر.

التعقيب على محتوى الكتاب:

أولًا: المنهج العام للكتاب

يعتمد الكتاب على القراءة التدبرية لسورة النمل، خاصة قصة الهدهد وملكة سبأ وسليمان عليه السلام.

الهدف: استخلاص دروس في القيادة والحكم والمفاوضات من قصة موثقة في القرآن الكريم، دون الدخول في تفاصيل تفسيرية تقليدية.

ثانيًا: محاور الكتاب الرئيسية:

1. القيادة من خلال نموذج الهدهد:

القائد الحقيقي يتفقد ويتابع ولا يتغافل.

أهمية إعطاء أعضاء الفريق مساحة للحديث والمبادرة.

القدرة على الاستماع لمعلومة جديدة قد لا يمتلكها القائد.

احترام مصدر المعلومة وتوثيقها.

2. الملكة بلقيس كنموذج للقيادة الحكيمة:

تمارس القيادة الجماعية ولا تنفرد بالقرار: عندما قالت «ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون».

تُحسن اختيار الوقت والمكان والمدعوين للاجتماع.

تعتمد الصدق والدقة في عرض المعلومات.

تعرف متى تتكلم ومتى تصمت.

تُظهر شجاعة اتخاذ القرار دون تهور.

3. استراتيجية المفاوضات بين سليمان عليه السلام وبلقيس:

سليمان عليه السلام بدأ بالتحقيق ثم الإنذار، ثم أرسل رسالة قوية لكنها غير مباشرة.

بلقيس ردت بهدية ذكية لتجنب الحرب وتختبر نواياه.

سليمان عليه السلام رفض الهدية، لكنها لم تنفعل، بل قررت مواجهته بالحوار.

ثالثًا: أهم الدروس المستفادة من بلقيس كقائدة

الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية:

قالت: «إني ظلمت نفسي»، ولم تلُم أحدًا غيرها.

القوة الناعمة والتأثير المعنوي:

لم تلجأ إلى الحرب رغم امتلاكها القوة، بل استخدمت الحوار والدبلوماسية.

الرؤية الاستراتيجية والتصور للمستقبل:

قالت: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها»، أي تنبأت بمآلات الحرب.

التوازن بين العاطفة والعقل:

كانت ثابتة وجدانيًا، حكيمة، لم تستفزها المواقف أو تهديدات القوة.

نموذج “رابح – رابح”:

انتصر سليمان عليه السلام بدعوته دون قتال، وانتصرت بلقيس بالحفاظ على شعبها وكرامتها.

توثيق التجربة كميراث قيادي:

تجربة ملكة سبأ وثّقها الله في القرآن الكريم، لتكون ميراثًا يتعلم منه القادة عبر الزمن.

 رابعًا: القيمة الفكرية للكتاب

يربط القيم القرآنية بمهارات القيادة الحديثة.

يقدّم نموذجًا نسائيًا قياديًا راقيًا من البيئة العربية القديمة.

يُبرز أهمية الذكاء الاجتماعي، وحسن التقدير، وفن التعامل مع الأزمات.

في الختام، هذا كتاب يُقرأ أكثر من مرة. وتُكتب على هامشه هوامش كثيرة. وربما أجمل ما فيه أنه يربط الحاضر بالماضي، والقرآن بالواقع، والقوة بالحكمة.

أحيي الكاتب الكريم على جهده، وأشكر القائمين على هذه الجلسة التي منحتنا فرصة للحوار والتأمل في ميراث ملكة سبأ — ذلك الميراث الذي جعله الله قرآنًا يُتلى لا ينسى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته