تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية : تصحيح للموقف التاريخي وانحياز للحق الفلسطيني  

أغسطس 1, 2025 - 13:35
تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية :  تصحيح للموقف التاريخي وانحياز للحق الفلسطيني   

تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية:

تصحيح للموقف التاريخي وانحياز للحق الفلسطيني

 

بروفيسور عوض سليمية

باحث في العلاقات الدولية – معهد فلسطين لأبحاث الامن القومي

 

 

شكل نداء نيويورك بشأن حل الدولتين، الصادر عن الأمم المتحدة في 30 يونيو/حزيران بتنظيم مشترك بين المملكة العربية السعودية وفرنسا، تطوراً كبيراً في مسار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وحرك المياه الراكدة في محيطات الغرب الجماعي المتجمدة. حين أعلنت نحو 15 دولة غربية، من بينها فرنسا وبريطانيا، نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية كجزء من جهود التجسيد الفعلي لحل الدولتين. بإعتباره الخيار الوحيد والأمثل لتحقيق السلام العادل والدائم والشامل لإنهاء الصراع المستمر منذ عقود. يأتي هذا الاعلان في سياق تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته العديد من الدول الغربية منذ نكبة عام 1948، عندما اعترفت بدولة إسرائيل دون أن تقرن ذلك باعتراف مماثل بالدولة الفلسطينية.

التأثير السام لسياسات واشنطن تجاه الحق الفلسطيني في اوروبا وعبر العالم يبدو أنه يلفظ أنفاسه الاخير او يكاد، وسط تزايد الاعلانات الدولية القادمة من عواصم العالم الغربي – بريطانيا، كندا، استراليا، اندورا، البرتغال، فنلندا، لوكسمبورغ، مالطا، نيوزيلاندا، سان مارينو، وفرنسا، نيتها الاعتراف بدولة فلسطين بحلول شهر ايلول سبتمبر القادم- موعد انعقاد الدورة الجديدة للامم المتحدة. يقف رعاة الحروب في واشنطن وتل ابيب عاجزان عن وقف التسونامي الغربي الهادف الى تعديل ميزان العدالة الدولية المائل منذ العام 1948. من ناحيته، يحاول ترامب إظهار حالة من اللامبالاة بهذه الاعلانات. يقول ترامب "في جوهر الأمر، [ستامر وماكرون] يقولان الشيء نفسه، وهذا أمر جيد، لكن كما تعلمون، هذا لا يعني أنني مضطر للموافقة". يتردد صدى الضغط ليصل سريعاً الى بريد قادة إسرائيل وسط حالة من التوتر والارباك في المواقف، غابت عنها الحكمة والاستماع للنصيحة الالمانية، وسادها دعوات لاتخاذ خطوات من جانب واحد للرد على هذه العاصفة، بما فيها من بين امور اخرى، فرض السيادة على الضفة الغربية وضم الاغوار الفلسطينية وإعادة احتلال قطاع غزة، وبدء الاجراءات التنفيذية الفورية لمخططات التهجير القسري للشعب الفلسطيني.

وسط بيئة سياسية دولية مواتية لمصالح الشعب الفلسطيني، تدوي صافرة قطار الاعتراف بالدولة الفلسطينية في ارجاء العالم نحو محطته الاخير، وتدفع بقطار تطبيع ترامب للتنحي جانباً. تضيف التحركات الدبلوماسية الفلسطينية والعربية والدولية الحكيمة مزيداً من الضغط على عصب العين لكل من ترامب ونتنياهو. ومع إصرار واشنطن على عدم الاستماع لصوت العالم، حاولت وزارة الخارجية الامريكية إثارة بعض الغبار لإخفاء الحقائق عبر بيانها الذي اعلنت فيه فرض عقوبات على القيادة الفلسطينية واعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، تحت حجج ومبررات مفادها أن قادة دولة فلسطين "لا يلتزمون بالسلام في الشرق الاوسط"، وأن تحركاتهم على الساحة الدولية بما فيها "محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، تتناقض مع قرارات مجلس الامن الدولي رقم 242 و338" بإعتبارها تهدف الى تدويل الصراع الاسرائيلي الفلسطيني". تحركت اسرائيل فيما تبقى لها من حلقات تزداد ضيقاً على عنقها وأبرقت برقية شكر لإدارة ترامب على ما أسمته موقفها "الاخلاقي" المتمثل في فرض عقوبات على القيادة الفلسطينية. 

هذه الادعاءات الامريكية التي لا يمكن لعاقل ان يشتريها حتى من داخل الكونجرس، إنما هي نتاج ضغط لوبيات إسرائيل في واشنطن وفي المقدمة من الايباك AIPAC، التي كانت تعتقد ات يوم ان مسار التطبيع العربي-الاسرائيلي سوف يفضي بشكل تدريجي الى ترك الفلسطينيين وحدهم، وسيتحول النزاع من مطلب تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال الى نزاع داخلي. بعبارة اخرى، تعتقد لوبيات الضغط في واشنطن أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة سيصبح اقلية عرقية داخل دولة اسرائيل، وبموجب اتفاقيات التطبيع يُحظر على الدول العربية التدخل في الشأن الداخلي الاسرائيلي بإعتبارها قضية داخلية. في هذا السياق، أعلنت بيتسي كورن، رئيسة مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية COP عن شكرها للرئيس ترامب على ما وصفته بــ "الوضوح الأخلاقي في مواقفه والتي يحتاجها العالم".

بالنظر للتبعية الاوروبية شبه الكاملة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لسياسات واشنطن، يصعب احياناً تصديق الحقائق. لكن يبدو ان التوتر في المواقف بين الكتلة الأوروبية واسرائيل بسبب جرائمها بحق الشعب الفلسطيني قد بلغ ذروته ويجري الان ترجمته على ارض الواقع. من حيث لا يتوقع ترامب ونتنياهو، كانت الافعال على الارض تسبق الاقوال. من داخل البرلمان الاوروبي أجرى سفراء الدول نقاشات معمقة حول تعليق التمويل المالي لاسرائيل الخاص ببرنامج البحث والابداع الرائد "افق اوروبا" Horizon Europe والذي تبلغ قيمته 100مليار دولار لتمويل الابداع والبحث العلمي. وكان قد سبق هذا النقاش، اجتماعاً آخراً لإعادة النظر في اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد الاوروبي واسرائيل عام 1995 ودخلت حيز التنفيذ بعد المصادقة عليها من قبل برلمانات الدول الاوروبية عام 2000، والتي منحت اسرائيل مزايا كبيرة داخل السوق الاوروبية، بسبب سلوكها التدميري في قطاع غزة وعموم اراضي فلسطين.

في هذا الإطار، تتولى كل من السويد، فرنسا واسبانيا الى جانب 17 دولة داخل البرلمان الاوروبي تحريك ملفات اتفاقيات الشراكة التجارية مع اسرائيل، انفردت هولاندا بأول وأقوى قرار في تاريخ اوروبا عندما اعلنت أن اسرائيل "تشكل تهديداً وخطراً على امنها القومي" وأعلن وزير خارجيتها كاسبر فيلد كامب قراره بمنع المتطرفين سموترتيش وبن غفير من دخول اراضي بلاده بسبب دعواتهما للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. من جانبها، اعلنت حكومة سلوفينيا قرارها القطعي المستقل بحظر استيراد وتصدير السلاح من والى اسرائيل. فيما اعلنت كل من بريطانيا وكندا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحلول شهر ايلول سبتمبر، حذرت المانيا -التي ما تزال تعيش عقدة الهولوكوست على حساب الحقوق التاريخية والوطنية للشعب الفلسطيني، على لسان وزير خارجيتها يوهان فاديفول من مخاطر ازدياد العزلة على المسرح الدولي. وهي اشارة واضحة الى الانحياز الدولي الجارف نحو الحق الفلسطيني بعيداً عن الهيمنة الامريكية.

اعلان إدارة ترامب فرض عقوبات ومنع منح تأشيرات السفر للقيادة الفلسطينية واعضاء م. ت. ف. لحضور اعمال جلسات الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك، وعلى الرغم من كونه انتهاكاً لاتفاقية المقر في "القسم التاسع" الموقعة مع الامم المتحدة عام 1947 إلا انه لم يكن مفاجئاً، وهو نسخة مكررة لسياسة الرئيس الامريكي رونالد ريغان ووزير خارجيته جورج شولتز عندما اتخذ قراره عام 1988 بمنع منح ياسر عرفات والوفد المرافق له تأشيرة دخول للأراض الامريكية بوصفه "إرهابيا". الامر الذي استدعى نقل اعمال الجلسة الى جنيف.  وان مثل هذا النوع من القرارات لا يمكن قراءته الا في سياق الابتزاز السياسي الامريكي للقيادة الفلسطينية، ولن يجدي نفعاً.  

الاعترافات الأوروبية القائمة وتلك الموعودة في ديسمبر القادم بدولة فلسطين، يبدو أنها تتجاوز البُعد الأخلاقي إلى حسابات سياسية واقتصادية متشابكة. هذه التحركات تأتي في ظل تصاعد التوترات بين دول الاتحاد وإدارة ترامب، التي اتخذت العديد من القرارات التي أثرت سلباً على المصالح الأوروبية. من أبرز على سبيل المثال، فرض رسوم جمركية مرتفعة على صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة تراوحت بين 15%-41%، مما الحق ضرراً كبيراً بالاقتصادات الأوروبية. سبق ذلك، إعلان ترامب عن خطته لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية دون اعتبار للموقف الأوروبي، اتبعها توقيع صفقة مع كييف للاستحواذ على المعادن النادرة دون مراعاة مصالح شركائه في الحرب. كما أثار بدء مفاوضات نووية مع إيران دون تنسيق مسبق مع بروكسل استياء القادة الأوروبيين، خاصة بعد تسرب معلومات تشير إلى سعي واشنطن لتحقيق مصالح اقتصادية في قطاع النفط والغاز الإيراني. أضف الى ذلك، غياب رد الفعل الأمريكي على قرارات دول الساحل الإفريقي، بما في ذلك تشاد وبوركينا فاسو والنيجر، بطرد الجيش الفرنسي وإنهاء الاتفاقيات الدفاعية، الى جانب إنهاء العقود الاحتكارية للشركات الفرنسية للتنقيب عن الموارد الطبيعية مثل النفط والذهب واليورانيوم والفوسفات، في سياق آخر، تصريحات ترامب حول ضم كندا إلى الولايات المتحدة والتلويح باستخدام القوة لضم جزيرة جرينلاند التابعة للدنمارك والاستحواذ على قناة بنما، بالإضافة الى، تهديده بتفكيك حلف الناتو إذا لم تلتزم الدول الأعضاء بدفع 5% من إجمالي الناتج المحلي لتمويل نشاطات الحلف. هذه السياسات، أثارت جدلاً واسعاً في اوروبا حول شكل العلاقة المفترضة مع واشنطن.

تشير التحركات الأوروبية نحو الاعتراف بدولة فلسطين إلى تغييرات استراتيجية تعكس سعي الدول الغربية لتحقيق استقلالية أكبر في قراراتها السياسية بعيداً عن الهيمنة الأمريكية التقليدية. يأتي هذا التوجه في ظل تحولات عالمية متسارعة نحو نظام دولي متعدد الأقطاب يبدو ان روسيا والصين وحلفائها في دول البريكس عازمون على تصميمه. حيث تسعى الدول الأوروبية إلى إعادة صياغة علاقاتها الدولية بما يضمن حماية مصالحها وتعزيز مكانتها بين الأمم. في الواقع، إن حالة عدم اليقين المتزايدة تجاه السياسات الأمريكية دفعت هذه الدول إلى البحث عن نهج أكثر توازناً يتيح لها لعب دور فاعل ومستقل في القضايا الدولية، بما في ذلك إجراء تعديلات جوهرية في سياساتها التقليدية تجاه القضية الفلسطينية.