"ثورة الأركيولوجيا في الضفة الغربية: توظيف علم الآثار في إعادة تشكيل الهوية والسيادة"
—————————
بقلم: د. منى أبو حمدية
أكاديمية و باحثة
—————————
لم يعد علم الآثار في السياق الإسرائيلي–الفلسطيني حقلاً معرفياً محايداً يُعنى بدراسة الماضي فحسب، بل بات، كما تكشف الصحافة العبرية ذاتها، أداة فاعلة في الصراع على الأرض والهوية والسيادة. ففي مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 17 ديسمبر 2025، جرى توصيف التحركات الإسرائيلية في الضفة الغربية ضمن ما أُطلق عليه مصطلح «ثورة أركيولوجية»، في إشارة إلى تحوّل جذري وتعسفي في إدارة المواقع الأثرية، وأهداف التنقيب السياسية، والإطار القانوني الناظم لها.
يسعى هذا المقال إلى تحليل هذه «الثورة الأركيولوجية» كما قدّمتها الصحافة الإسرائيلية، وقراءة دلالاتها السياسية والقانونية والثقافية، مع التركيز على أثرها في التراث الفلسطيني والوضع القانوني للأراضي المحتلة.
أولًا: مفهوم «ثورة الأركيولوجيا» في الخطاب الإسرائيلي
وفق ما ورد في يديعوت أحرونوت، لا تشير «الثورة الأركيولوجية» إلى تطور علمي أو منهجي في أدوات التنقيب، بل إلى تحول مؤسسي وسياسي يتمثل في:
• السعي إلى فرض ما يسمى بقانون الآثار الإسرائيلي بالقوة على مناطق في الضفة الغربية.
• نقل صلاحيات الإشراف من الإدارة العسكرية ( ادارة الاحتلال) إلى ما يسمى بسلطة الآثار الإسرائيلية.
• إعادة تعريف المواقع الأثرية بوصفها جزءًا من «التراث القومي الإسرائيلي المزعوم ».
هذا التحول يعكس انتقال علم الآثار من كونه نشاطاً بحثياً إلى آلية سيادية تُستخدم لترسيخ واقع قانوني وسياسي جديد يقوم على التزييف في أرض محتلة.
ثانياً: البحث عن الهوية الوهمية واعادة صياغة السردية التاريخية
تقرّ الصحيفة العبرية بأن أحد الدوافع المركزية لتكثيف أعمال الحفر هو تعزيز الرواية التاريخية اليهودية بكل اساليب التزييف وربطها المباشر بالجغرافيا. وتعرض المقالة ذلك بوصفه عملية «صياغة هوية يهودية مزعومة » من خلال المكتشفات الأثرية المزيفة.
تكمن خطورة هذا التوجه في انتقائيته؛ إذ تُبرز طبقة تاريخية واحدة وضعيفة، بينما تُهمَّش أو تُغيب المراحل الحضارية الأخرى التي تعاقبت على فلسطين، بما فيها الحضارات الكنعانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية. وهكذا يتحول الأثر من شاهد على التعدد التاريخي إلى أداة لإنتاج سردية أحادية لا تستند الى دليل اثري صحيح.
ثالثاً: تغيير الوضع القائم وتصنيف المواقع الأثرية
تشير يديعوت أحرونوت إلى أنه في أغسطس 2025 جرى تصنيف عشرات المواقع الأثرية الفلسطينية على حد زعمهم كمواقع «تراث إسرائيلي». هذا الإجراء التعسفي، يحمل أبعاداً سياسية وقانونية عميقة، إذ:
• يُعد تغييراً للوضع القائم الاساسي في الأراضي المحتلة.
• يُنشئ وقائع زائفة تخدم مشروع الضم الزاحف.
• أثار انتقادات دولية ومحلية، باعتباره انتهاكاً صارما لقواعد القانون الدولي الإنساني التي تحظر على الاحتلال تغيير الطابع القانوني أو الثقافي للأرض المحتلة.
رابعاً: سبسطية نموذجاً لتلازم الأثر والاستيطان
يبرز موقع سبسطية (على حد تعبيرهم بالسامرة القديمة) في التقرير العبري كنموذج تطبيقي لـ«الثورة الأركيولوجية». فقد شملت أعمال التطوير:
• شق طرق تخدم المستوطنات.
• إقامة نقاط عسكرية للتلاعب بنتائج الحفريات.
• فرض قيود مشددة على وصول الفلسطينيين إلى الموقع.
تكشف هذه الإجراءات عن تداخل واضح بين التنقيب الأثري والمنظومة الأمنية الاستيطانية، حيث تُستخدم الآثار _والتي لم تأتي بنتائج تثبت سردية الاحتلال _ ذريعة لإعادة هندسة المكان، وإقصاء السكان الأصليين، وتحويل الموقع من فضاء تراثي فلسطيني إلى منطقة خاضعة لسيطرة عسكرية لدولة الاحتلال.
خامساً: الآثار بعد تزييف نتائجها كأداة سيطرة سياسية
تنقل الصحيفة مواقف منظمات إسرائيلية، أبرزها (Emek Shaveh)، التي ترى أن علم الآثار في الضفة الغربية يُستخدم كـأداة سياسية تهدف إلى:
• توسيع السيطرة الإقليمية.
• شرعنة الاستيطان عبر غطاء ثقافي تم تزييفه.
• تهميش التراث الفلسطيني ، وإعادة تعريف التاريخ بما يخدم مشروع الهيمنة الإسرائيلية.
وتكتسب هذه الانتقادات أهميتها من كونها صادرة عن أصوات إسرائيلية داخلية، ما يمنحها وزناً خاصاً في تفكيك الخطاب الرسمي السلطوي.
تكشف «ثورة الأركيولوجيا» كما عرضتها يديعوت أحرونوت عن تحوّل عميق في وظيفة علم الآثار داخل الضفة الغربية: من علمٍ يدرس الماضي إلى أداة تعيد تشكيل الحاضر وتحدد مستقبل المكان. إنها ثورة لا تقوم على الاكتشاف، بل على إعادة التأويل والتسييس، حيث يُستدعى الأثر لتكريس السيادة، وإعادة كتابة الذاكرة، وفرض سردية تخدم الاحتلال على حساب التعدد التاريخي والثقافي.
وعليه، فإن الصراع حول المواقع الأثرية لم يعد صراعاً على حجارة صامتة، بل بات صراعاً على الحق في التاريخ، والذاكرة، والوجود.