بوفيه مفتوح .. ما بعد اليوم الأول

فبراير 25, 2024 - 13:13
بوفيه مفتوح .. ما بعد اليوم الأول

بقلم: برهان السعدي

     كثر الحديث عن ما بعد اليوم الأول، والسيناريوهات متعددة بتعدد الطباخين، فالمطابخ متعددة، بينها قواسم وتعارضات. في حين، كان المنيو في المطابخ مهملا، والطباخون في إجازة، ويبدو أن طبخة كانت تعد بسرية مطلقة، كشفها السابع من تشرين أول.

     الطباخون يمارسون دور الطباخين من جهة، ولاعبي رقعة الشطرنج من جهة أخرى. فمنذ الأسبوع الأول هبط الرئيس الأمريكي في دولة الاحتلال، مؤكدا على صهيونيته، ودعمه اللامحدود لإسرائيل الغازية المحتلة لفلسطين، بكل ما تمارسه من قتل وفاشية، فكان سؤاله المباشر لنتياهو الذي قرر أن يحتل غزة، ماذا بعد اليوم الأول؟؟!! لكن لم يكن في ذهن رئيس حكومة الاحتلال جوابا واضحا، مما يشير إلى أن الإهمال والتجاهل الأمريكي للقضية الفلسطينية كان متعمدا، ويسير في خطى محمومة نحو إفراغ قطاع غزة من سكانه، خاصة الشمال منه، لإنجاح ما هو غير معلن من مخططات استعمارية.

     ومن جملة هذه الأهداف، تنفيذ مشروع القناة بين البحرين، واستثمار مصادر الطاقة التي تعج بها شواطئ غزة، فالغاز بجودته وكمياته يحتل مرتبة متقدمة في العالم، ويفوق كثيرا من دول الخليج والعالم، وإقامة دولة إسرائيل الكبرى ذات الطابع اليهودي، وإخضاع المنطقة برمتها تحت الهيمنة الإسرائيلية، وجعل شعوب المنطقة خدما بالمجان وبمهانة وإذلال للسيد اليهودي.

     وقد اعتبرت إسرائيل والولايات المتحدة السابع من تشرين فرصة لتحقيق مخططاتها الاستعمارية، وكانت الرهانات على الجيش الإسرائيلي بأن يستأصل المقاومة في غزة خلال عدة أسابيع، إن لم يكن ذلك خلال أيام فقط، أمام حجم الضربات الماحقة التي يقوم بها جيش الاحتلال جوا وبحرا ثم برا.

     واعتقدت قيادة الاحتلال، ومجلس حربها أن احتلال مدينة غزة سيكون نهاية حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة. وتكرر المشهد، وبنفس الكلمات، أن احتلال خانيونس سيشكل نهاية للمقاومة، والتوصل للمحتجزين الإسرائيليين، فهم حسب الوصف الإسرائيلي في وسط خانيونس، وتم احتلال معظم قطاع غزة، لكن أسلحة الدمار الأمريكية بأيدٍ إسرائيلية وجنود إسرائيليين ومرتزقة من دول متعددة، لم تحقق غير الدمار والإبادة الجماعية باقتراف المجازر والمذابح اليومية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة الحجم.

     وشرعت القياد الإسرائيلية بتكرار نفس الكلمات والعبارات، بأن احتلالها للمدينة الفلسطينية رفح، سيشكل نهاية الحرب، بتحقيق الانتصار وتحرير الأسرى الإسرائيليين. فهذه العبارات يتكرر إنشادها كترانيم تلمودية، تحض على القتل والتنكيل بكل ما هو فلسطيني، قبيل الشروع بأية اقتحامات للمدن الفلسطينية في القطاع.

     والنتيجة، أن الشهر الخامس من حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، لم يحقق عسكريا أي انتصار، أو سحقا للمقاومة، بل تستمر المقاومة وبضراوة في جميع المدن والمخيمات التي احتلتها إسرائيل، واضطرت لإخلائها.

     أمام هذا العجز والفشل، الذي يشكل في البعد الاستراتيجي فشلا وهزيمة للجيش الإسرائيلي، من حيث عدم إنجاز أي هدف من الأهداف المعلنة لحكومة حرب الاحتلال منذ بداية العدوان على غزة، رغم تخفيض سقفها.

     لذا وضع رئيس حكومة الاحتلال خططاً جديدة، على أمل تحقيق ما لم تستطع القوة العسكرية الإسرائيلية تحقيقه. فحجم الدمار، وإنهاء معالم الحياة عن معظم الأماكن في قطاع غزة لم يحقق له نصرا، ولم ترفع راية بيضاء، فكان قرار التجويع، حيث قامت دولة الاحتلال، بجيشها وسوائب شذاذ الآفاق فيها بقيادة المأفون بن غفير، والفاشي سموتريتش وبدعم وتوجيه من رئيس حكومة الاحتلال بمنع المساعدات الإنسانية، من قوافل الطعام، والمواد الطبية الأساسية واللازمة للمستشفيات والمراكز الصحية التي تم الاعتداء عليها بقصفها وإخراجها عن الخدمة، كل هذا ليكون ورقة الضغط على أبناء الشعب الفلسطيني بتجويعهم، ورؤية الآباء لأبنائهم يموتون بسبب المجاعة ونقص ماء الشرب والحليب للأطفال الرضع. بعد أن شاهد الاحتلال مدى تحمل الفلسطينيين في غزة، لحجم الألم والدمار، وقتل الأبناء والأمهات والآباء، بل وشطب مئات العائلات من السجل المدني، الذي لم يحسم نصرا لجيشه.

     وعليه، تقوم حكومة الاحتلال بشقين: الأول زيادة الضغط العسكري يتكثيف القتل مصحوبا بالتجويع الممنهج، والعودة للقصف الجوي الهمجي والجنوني لمدن ومواقع احتلتها ولم تستطع السيطرة عليها، ، إضافة إلى ضغطها على دول عربية وغيرها، لتحقيق شروط مذلة باتفاق بينها وبين المقاومة، فما دامت قوتها العسكرية وآلات دمارها لم تحقق النصر النسبي وليس المطلق، فلا بد من صنع نصر سياسي بعوامل إقليمية ضاغطة.

     وإن التصريحات الكلامية لإدارة البيت الأبيض حول إقامة دولة فلسطينية، ما هي إلا طمأنة لقيادة المقاومة، بأن هذا إنجاز ضخم، لا بد من التساوق معه، فهو يحقق الأهداف الكبرى التي وضعتها المقاومة لما أسمته طوفان الأقصى. وكأن التاريخ يعيد نفسه، فهكذا لعبت الإدارة الأمريكية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في معركة بيروت الأسطورية، فبعد 88 يوما من القتال الأسطوري في بيروت، كانت اللعبة الأمريكية من خلال مبعوثها فليب حبيب، وتشجيع دول الإقليم، بأن الخروج من بيروت سيتبعه تحرر من الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فلا الدول العربية، مارست ضغوطا بفعل قوتها الاقتصادية والسياسية، ولا الولايات المتحدة كراعي للعملية السياسية أوفت بتعهداتها. فلا بد من الحذر، حيث لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وكانت النتيجة تبعثر القوات الفلسطينية في عدة دول عربية، ومقر قيادة المنظمة في تونس بعيدا عن خط الحدود مع فلسطين المحتلة، فكانت عملية سياسية تمخضت عن أوسلو، عنوانها مفاوضات بين طرفين أحدهما يملك أوراق القوة باحتلاله، أما الطرف الفلسطيني الأضعف في المعادلة، بقي وحده دون وجود أية بارقة أمل لاستجابة إسرائيلية لأي حق من الحقوق الوطنية الفلسطينية.

    

     فالمطلوب فلسطينيا، وحدة الموقف، بإنهاء العدوان على غزة، والتأكيد أن الذي يحدد من يحكم غزة، هم الفلسطينيون وحدهم، فلا علاقة لمطبخ النتن ياهو بمن يحكم غزة أو فلسطين، وأن الموقف الفلسطيني يستوجب الوضوح والثبات، في أن هدف الفلسطينيين ليس التخلص من سلطة حماس في غزة، فهذا أمر فلسطيني داخلي، إنما التخلص من الاحتلال وفاشيته، فحركة حماس هي جزء من النسيج المجتمعي الفلسطيني، وهي حركة سياسية فلسطينية، لها برامجها كأي تنظيم فلسطيني للخلاص من الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وعلى الفلسطينيين تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية الوقوف بثبات في تمسكهم لهذه البديهيات، حيث لا مدخل لأية قوة إقليمية أو دولية لتمارس وصايتها على الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي، والسؤال: هل الولايات المتحدة، وأوروبا ودول الإقليم مجتمعة مارست أي نفوذ أو دور لها للتخلص من الحكومة الإسرائيلية اليمينية الفاشية، التي مارست الإبادة الجماعية وجرائم الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني سواء في غزة أو الضفة الغربية أو القدس، أم أنهم أبناء المدللة، ومن حقهم ممارسة الفظائع والمجازر وانتهاك المواثيق والقوانين الدولية؟؟!!

     كما على الفلسطينيين عدم التنازل عن تحرير جميع الأسرى الفلسطينيين، فالأسرى الإسرائيليون لم يمكثوا في الأسر سوى أيام معدودة لا تصل نصف عام حتى الآن، لكن الأسرى الفلسطينيين بعضهم قضى أكثر من ثلاثين عاما، وكثير منهم أكثر من عشرين عاما، وغالبيتهم محكومون مؤبدات وقضوا بالحد الأدنى أكثر من خمسة أعوام داخل أقبية وسجون الاحتلال الإسرائيلي بشروط حياتية تفتقد الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة لأي معتقل في العالم ضمن المواثيق الدولية.

 

 وعلى الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا إعلان الاعتراف رسميا بالدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة على كامل التراب الفلسطيني المحتل عام 1967م، مع تحديد فترة زمنية محددة لإنجاز ذلك على الجغرافيا.

     أما فتح مطابخ عربية وغيرها، وإعداد أوراق من قبل دول عربية وإقليمية ودولية، لتحدد مسار الشعب الفلسطيني وهويته السياسية ونظام حكمه، فهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا، لكن، وفي المقابل، على هذه الدول أن تكفر عن مشاركتها ومساهمتها في إنشاء دولة الاحتلال ودعمها على حساب شعبنا،  وتشكيلها شبكة أمان لها على جرائمها اليومية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، من خلال تنفيذها الشق الثاني من قرار التقسيم، الذي نشأت إسرائيل كدولة على التراب الفلسطيني بموجبه.