كيف مكنت إدارة الرئيس السابق بايدن إسرائيل من ارتكاب إبادة جماعية في غزة
في مقال مطول في صحيفة نيويورك تايمز نشر الثلاثاء ، تحت عنوان " كيف أخفق الديمقراطيون في إدارة ملف غزة؟" ، يرى بن رودس، أحد أبرز صنّاع السياسة الخارجية في إدارة باراك أوباما، أن تعامل الحزب الديمقراطي مع حرب غزة شكّل نموذجاً صارخاً على فشل سياسي وأخلاقي في آن واحد. فمع اندلاع أحداث 7 تشرين الأول، سارع الرئيس ألأميركي السابق جو بايدن، إلى إظهار دعم مطلق لإسرائيل، تمثّل رمزياً في عناقه الشهير لبنيامين نتنياهو. بالنسبة لرودس، لم تكن تلك مجرد إشارة تضامن إنساني، بل تجسيداً لاستراتيجيه اعتمدها الديمقراطيون لسنوات، تقوم على تقديم دعم غير مشروط لحكومة اليمين الإسرائيلي ظناً أن ذلك يمنح واشنطن قدرة على التأثير في سلوك تل أبيب.
لكن هذه المقاربة، بحسب رودس، لم تُنتج سوى نتائج عكسية: فهي لم تُلجم نتنياهو، ولم تُقَرِّب فرص التسوية، بل زادت من اندفاع اليمين الإسرائيلي وأضعفت صدقية الخطاب الديمقراطي حول حقوق الإنسان والعدالة الدولية. ومع مرور الوقت، وجد الحزب نفسه في موقع الدفاع عن سياسات تتناقض مع قيمه المعلنة، في وقت كانت فيه صور الأطفال القتلى، والدمار في غزة تتفاقم، والمواقف الشعبية في الولايات المتحدة — خاصة بين الشباب والديمقراطيين — تتجه نحو نقد أكثر وضوحاً للسياسة الإسرائيلية.
يذكّر رودس بأن الإرث التقليدي للديمقراطيين في دعم إسرائيل كان يقوم على سردية تاريخية: إسرائيل الدولة الديمقراطية الصغيرة، الحليفة للقيم الليبرالية، والمهددة من محيط معادٍ. غير أن هذا السرد لم يعد يعكس الواقع. فإسرائيل اليوم قوة عسكرية كبرى، والضفة الغربية تشهد توسعاً استيطانياً ممنهجاً، وغزة كانت محاصرة حتى قبل الحرب بوقت طويل. ومع ذلك، واصل معظم الديمقراطيين ترديد عبارات محفوظة عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"و"حل الدولتين"، من دون مساءلة جدية لسلوك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
يشير رودس إلى أن تجربة إدارة أوباما أظهرت حدود هذه السياسة؛ فرغم محاولات دفع المفاوضات قدماً، كان نتنياهو يتعامل مع أي مبادرة أميركية باعتبارها تهديداً سياسياً له، ويحولها إلى فرصة لمهاجمة واشنطن داخلياً. ومع وصول ترمب إلى السلطة، وتطبيق سياسات اعتُبرت الأكثر انحيازاً في التاريخ الأميركي لإسرائيل، لم يتردّد نتنياهو في استثمارها بالكامل، بينما أبدى الديمقراطيون تردداً كبيراً في مراجعة نهجهم.
ثم جاءت حرب غزة لتكشف تعطيل هذا النظام بشكل فجّ. فبعد الهجوم، سارع القادة الإسرائيليون إلى إطلاق خطاب تجريدي تجاه سكان غزة كأنهم ليسوا بشرا، ترافق مع قصف مكثّف وحصار شامل، ما دفع منظمات حقوقية وخبراء قانونيين إلى وصف ما حدث بأنه يرقى إلى الإبادة الجماعية. وبرأي رودس، فإن موقف الإدارة الأميركية — رغم بعض الدعوات المتأخرة لتخفيف العمليات — بدا أقرب لتقديم غطاء سياسي لإسرائيل منه إلى سياسة مبنية على مبادئ أخلاقية.
إن ما يلفت في طروحات رودس هو أنه لا يكتفي بنقد الأداء السياسي، بل يكشف هشاشة البنية الأخلاقية التي قامت عليها السياسة الخارجية الديمقراطية لعقود. فالتناقض بين الخطاب القيمي — الديمقراطية، حقوق الإنسان، النظام الدولي — وبين دعم غير مشروط لحكومة تنتهج سياسات قومية متطرفة، يُفقِد الولايات المتحدة قدرتها على ممارسة أي نفوذ حقيقي أو لعب دور الوسيط. وما حدث في غزة لم يكن مجرد أزمة إقليمية، بل اختباراً لفكرة "القيادة الأخلاقية الأميركية" بأكملها.
يظهر كذلك أن جذور المشكلة ليست فقط في الموقف من إسرائيل، بل في علاقة الحزب الديمقراطي بالبُنى التقليدية للنفوذ داخل واشنطن، وفي مقدمتها جماعات الضغط الكبر (اللوبي الإسرائيلي). فبحسب رودس، أصبح كثير من النواب والداعمين يعيشون في حالة خوف من الخروج عن الإجماع المؤيد لإسرائيل، حتى عندما يعبّر الرأي العام داخل قواعدهم عن مواقف مختلفة تماماً. وهذه الفجوة بين الناخبين وممثليهم تُضعف الديمقراطية الأميركية من الداخل وتخلق شعوراً بالغربة السياسية لدى شرائح واسعة من الشباب.
كما يبرز طرح رودس إشارة مهمة إلى التحولات داخل المجتمع اليهودي الأميركي نفسه. فالأغلبية الساحقة من اليهود الأميركيين ما تزال تؤيد بقاء إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تبدي قلقاً متزايداً من الاتجاهات اليمينية المتشددة. وهذا الانقسام داخل المجتمع اليهودي يعكس تحولاً أعمّ: صعود جيل يرفض اختزال أمن اليهود في دعم غير مشروط لحكومة معينة، ويرى أن أمنهم يرتبط أيضاً بالعدالة، وبمستقبل يسمح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ويؤكد رودس أن أمام الديمقراطيين فرصة لإعادة بناء سياسة خارجية أكثر اتساقاً مع قيمهم، شرط أن يتحلّوا بالشجاعة للتخلي عن الصيغ القديمة. فالتحدي لا يقتصر على غزة، بل يمتد إلى ما هو أوسع: مستقبل العلاقة بين أميركا والعالم، وقدرتها على لعب دور ينسجم مع مبادئها. ولعل الدرس الأكبر الذي طرحه رودس هو أن السياسة الأخلاقية ليست عبئاً على الفاعلية، بل قد تكون الشرط الأوّل لاستعادتها.





