عصّوم ..  حبيبي ،  ياخال !!

فبراير 25, 2024 - 13:12
عصّوم ..  حبيبي ،  ياخال !!

الكاتب: برهان السعدي

      بعد عقود من الزمن، عدنا إلى التراث الشفهي، والتوثيق الشفهي، والتاريخ الشفهي، وبعد أن غزت الرواية الإسرائيلية الصهيونية الكاذبة عقول البشر، بخرافات لا صلة لها بالواقع أو الحقيقة، فها هي حكاية فلسطينية، ورواية شهود على بطولة فلسطينية، والبطولة لم تقتصر على شاب ببندقيته البسيطة في موجهة جيش مؤلل، إنما بطولة أم لو عاصرها مكسيم غوركي، لنال عليها أعظم الجوائز تقديرا.   

     واستكمالا لحلقات الشموخ في مخيم نور شمس، وإيمانا بحقوق الملكية الفكرية، وإيمانا بحق الجميع في قراءة ما يكتب، ضمن حرية النشر، وبعد تنقيحي لما وصلني من إنتاج ممزوج بين العاطفة وسلاسة الإبداع، أقدم للقارئ هذا النص الأدبي التشخيصي لواقعة عظيمة، صيغت بدمع العين ومداد القلب، بقلم "خيال عصوم النور شمسي".

     براءة ملامح وجهه الملائكي، وهدوء ابتسامته المشرقة، لا توحي بعنفوان قلبه، وجبروت رفضه، وتمرد روحه. كان المعتصم متحدياً سوء الطالع، وقسوة الحال، ومنكراً عتمة الواقع، وبؤس المآل، معلناً ثورته على الخنوع بلا جهاد، والاستسلام لسوط الجلاد، فأسرج في الذاكرة الوطنية قناديل التفاؤل والامل. واوقد بين ثنايا القلوب المفعمة بالايمان قبس من ترانيم الحرية والانتصار. فسلام عليك يا المعتصم، سلام على سمو جبينك، وانفة روحك، وطيب محيّاك، سلام على جولاتك في ساحات الاشتباك الملحمي، وصولاتك في ميادين الشرف والبطولة، زغرودة امهات الشهداء الشامخات، لجلال عظمتك وهيبة مقامك.

     في يوم الواقعة، كان "الخال" مؤيد (ابو ابراهيم) يَنْظُم تدابير التطور، ويرسي دعائم الرقي في جامعة الوطن، عندما استقبل نداء استغاثةٍ بعد ظهر يوم الاربعاء. فالمعتصم واشقائه الخمسة، محاصرون من قبل قوة حقد وقتل خاصة. انطلق "الخال" من فوره على غير هدى كلمح البصر، يطوي المسافات، ويسابق الزمن، بعد دقاق قليلة، لكنها مرت كساعات طويلة، وصل "الخال" على مقربة من بيته حيث كانت شقيقته بل أُمِّه الصغيره " أم سيف"، تقف مرعوبة، مذهوله، موتورة على ناصية الشارع الممتد امام بيت "الخال"، الجاثم فوق ربوة عالية، على بعد بضع مئات من الامتار، غربي "حارة الدمج"، ويُطلُّ مباشرة على بيت "آل العلي" المستهدف.

     عانقها "الخال" مؤيد بحرارة، بكي لبكائها تارة، وقَبَّل رأسها، ويديها تارة أخرى، وبين هذا وذاك، كان يحاول ان يهديء من روعها، ويطلب منها الإمعان بالدعاء. أحضر لها كرسيا لكنها رفضت الجلوس، كانت ترتجف، وتشهق، مع كل أزيز رصاصة تسمعها، كأنها اخترقت قلبها الطيب والمعمور بعشق ابنائها الستة المحاصرين. تجاهَلَت تحيتنا وسؤالنا عن صحتها واحوالها، ولم تلتفت الينا كثيرا، فهي تحدق بتوتر وانفعال بمسرح الاحداث، وتدقِّق بكل حركة وسكنة في محيط بيتها.  كانت تمر الثواني بطيئه، وتنقضي اللحظات متثاقلة، بينما تمزقنا خيبة الحيرة، وتخنقنا ضحالة الخيارات، وتطوينا قلة الحيله، فلا ترشح اي أخبار سارة، حول مصير الابناء الستة. لم يتوقف "الخال" عن محاولة تهدئة "ام سيف" يحضنها، و يسند وقفتها بذراعيه ، و يشد من ازرها، ويُذَكِّرها بقدره الله تعالى، ويتلوا عليها ما تيسر من آيات تُحدد فضائل الصبر والصابرين.

     تسارع دوران رحى المعركة، وبدأنا نسمع هدير انفجارات ورشقات رصاص متواصلة، أشتد قلق الأم على أبنائها، ولم تعد تقوى على الوقوف، فامسكنا بها قبل ان تنهار ارضاً. رغم ضعفها، رفضت كل محاولات ادخالها الي البيت، بل طلبت من الخال ان يتركها تذهب لبيتها، تشارك ابناءها حقد الاحتلال وقسوة الحصار، وتتقاسم معهم الم الاصابة او الاستشهاد.  كنا ننظر الى مشهد الاشتباك، كأننا امام مسرح تفاعلي مفتوح، يعرض حكاية تضحية تراجيدية، اسمها: "في حارتنا بطل".

     امام هول المعركة، نحاول التقاط انفسنا الموءودة قهراً، ننتظر بفارغ صبر قَدَراً لطيفاً، او حدثاً يخفف من روع المصاب الجلل. يستجيب الله لدعاء الام، فيأتينا خبر

نجاح الشقيق "ابو هنود" من كسر الحصار والانسحاب سالماً معافى.  التقط الخال الخبر، ووظفه يذكاء لاقناع ألأم ان الله القدير، قادر على اخراجهم جميعا بأمن وسلام، فتُسرج في أرواحنا جميعاً قناديل الفرح، ليظل التفاؤل يشرق بهجة، وانشراح بين هوامش الوجع، ومساحات الانتظار، حتى تبقى المعنويات عاليةً، تنشر دفء الأمل على ضفاف اليأس، وصحاري الإحباط.

     لكن، في جحيم القصف، وعصف الرصاص، كنّا كمن يبحث عن أمل ضائع، بعيداً في سديم السماء، فيأتيك خبر يشل فرحتك، فتهرول متدحرجاً من ذروة التفاؤل، الى واد الخيبة السحيق. فقد انغلقت بإحكام ابواب الممكن،  حين علمنا ان الشقيق الثاني "وسام" مصاب، وملقى على وجهه منذ ساعتين بلا حراك، فأيقنا انه ارتقى شهيداً. فكيف يمكن ان يتناهى الى خيالنا امكانية نجاة الاشقاء الخمسة؟! وكيف لنا ان نقنع اماً مكلومة ومفجوعة ان فلذات كبدها بخير؟

     ومع ذلك، فباب الرحمة الإلهية دائماً مفتوح، فعندما تعترض سبيلنا الفواجع، في أوج شدة المصائب، نتذكر اللجوء الى باب رب العزة كاشفاً للهم و الغم، لنهرب ما استطعنا من جزر الإحباط واليأس، الى شواطيء السكينة والاطمئنان، محاولين التشبث بقشة الامل. لنبدو اقوياء ثابتين امام "ام سيف" التي كانت تستطلع حركات الجنود، وترى بام عينها فاشيتهم وارهابهم، فتعتريها قشعريرة جزع الخوف، خاصة عندما شرعت جرافة الخراب، والدمار تلتهم بعضاً من غرف البيت، تحت غطاء من وابل الرصاص وقصف الصواريخ، يحاول "الخال" ترميم المشهد في نَظَرِ أمّه الصغيرة  ما امكن، ينسج لها من وحي الخيال موقفاً هشاً ضعيفاً، ويخترع على مسمعها روايه غير مقنعة؛ ولما يعجز عن إقناعها، يستعين عليها بالعقيدة ملاذاً، ويطلب منها بين الفينة والاخرى، أن تَذْكر الله كثيرا، وتدعوه اللطف فيما قدّر وقضى.

     انقضت الساعة الاولى من معركة غير متكافئة، وما زلنا نتوسل الى الله خبراً مفرحاً نحاصر فيه القلق والخوف، ووسواس وسوء العاقبة، بين ثانية وأخرى، كانت تقرع بصخب في وعينا اصوات اجراس المستحيل، فراودنا الشك المريب من امكانية خروج الأشقاء الخمسة أحياء. و"ام سيف" ايضا،ً ادركت دنو الفاجعة، فلم يتوقف لسانها عن الابتهال واللهج بالدعاء وطلب الرفق بأبنائها والرحمة، فجاءتنا بشائر خبر خروج ثلاثة من الاشقاء من المبنى المحاصر وهم (سيف واسامة و أنس)، وقد تعرضوا لوحشية، وهمجية الجنود، من تقييد و تنكيل وتعذيب، واستخدامهم كدروع بشرية، لكنهم بالمقابل كانوا على قيد الحياة. وهذه البشرى ايضا شكلت مادة دسمة "للخال" لالتقاط الأنفاس، ورفع المعنويات، وتضميد الجراح، وتسليح "ام سيف" بمزيد من جحافل الصبر والثبات، حيث أقنعها أن الأشقاء الثلاثة ومعهم أيضا "وسام" قد خرجوا من البيت أحياء. لكن الحقيقة هي اننا لم نفق بعد من الكابوس المرعب، فمصير المعتصم ووسام ما زال مجهولاً، بل اننا كنا على قناعة ان "وسام" قد استشهد.

     في خضم اشتداد وتيرة الاشتباك، ودخول المعركة قاذفات الصواريخ المحمولة على الكتف، أيقنا ان المعتصم لن ينجو، فهو من طلب الشهادة طائعاً مؤمناً، وحث الخطى للالتحام بها.  في هذا الوقت العصيب، تدخل "الخال" للتخفيف من روع ووجع "ام سيف" فأخبرها ان المواقع الاخبارية اكدت ان المعتصم قد كسر الحصار وانسحب وهو الآن في مأمن. لم تصدق ألأم الروايه، وصرخت منفعلة باكية قائلة: انني اراه يَطِلّ من خلف النافذه ويطلق النار! تدارك "الخال" الموقف، وأكد لها ان ما تراه كانت ستائر النافذه، لكنها ردت عليه بصوت متحشرج، و شهقة من الاعماق، أنا متأكدة أنه "عصّوم".

     حسرتها التي تكتوي بها، وعذاب الفقد الذي يتفاعل بروحها، ادمى قلوبنا، وغمرنا باحساس اليأس العميق، لندرك حقيقة مرة ملخصها: لا أحد يمكن له ان  يسلم من حلول قوارع الزمن، وتكالب الخطوب، لكن المرارة المؤلمة نتجرعها عندما تعوزنا الحيلة، وتتلاشى من أمامنا الفرص، ولولا ايماننا المطلق بالله لغلبنا الاحساس بالاحباط والانتكاس في المواقف المنغصة الصعبة والمفجعة، فتضعف ارادتنا، وتهتز الأرض من تحت اقدامنا.

     بالمحصلة، فان نجاة الأشقاء الاربعة على الأقل من موتٍ محقق، كان له الاثر الايجابي البالغ على نفسية ومعنويات الأم.  تمالك "الخال" زمام نفسه، واستجمع قواه، وسأل الأم المفجوعة: هل تعتقدين ان المعتصم يمكن ان يستسلم؟ فأجابت باختصار، دون تردد او تفكي: ابداً، لا يمكن. فهزّ "الخال" رأسه وقال لها: لننتظر إذاً تدابير وحُكم رب العالمين، الرحمن الرحيم، فلا راد لقضاء الله ولا مناص من قدره (شره وخيره)، ولا معقب لحكمه.

     مع اشتداد المقاومة، والصمود والبطولة، والاستبسال الذي أبداه المعتصم ولسبع ساعات متواصلة، جن جنون قطعان الاحتلال، فقاموا بقصف الغرف، وبيت الدرج  بالصواريخ، وامطروا المبنى بقنابل فسفوريه حارقة، لتشتعل النيران بالطابق العلوي. ولمّا رأت "ام سيف" هذا المشهد المرعب، انهارت، وأغمي عليها، واستفاقت مباشرة بعد رش وجهها بالماء. وقالت "للخال" انهم يحرقون البيت، فأجابها: العوض على الله، وسنعيده أفضل مما كان، الأهم ان نسأل الله ان يكون الأبناء بخير وسلام. لكن فاجعة "أم سيف" لم تنتهِ بعد، فأشلاء صبرها مبعثرة، وجعٌ يُمزق قلبها، لتسيل تلكَ الأنهار من عينيها، مصحوبة بصوت الأنين والألم.  كُنْت أخْتلس النظر اليها، وانا أتقطَّع من داخلي، وأكتوي بنار ألمي، وجبروت عجزي،  لكن ما باليد حيلة، فخياراتي "والخال" محدودة،  كان يجب أن نحافظ على تماسك حركاتنا وردود فعلنا، ورباطة جأشنا، كي لا ينهار كل شيء حولنا. 

بعد وقت قصير، توقف اطلاق النار، ورأينا اضواء كاشفة يحملها الجنود ويتنقلون بين طوابق المبنى، وما تبقى من غرفه وممراته، ثم خرجوا وتجمعوا في الساحة أمام المبنى، وصعدوا الى آلياتهم وانصرفوا، وانصرف معهم ارهابهم وبغيهم واجرامهم.

 كانت "ام سيف" مازالت ترتجف، بكت وتوسلت الى الله، وتمنت على "الخال" ان يصحبها الى بيتها لتطمئن على أولادها. لكن الليل قد حان، ولا كهرباء بالمكان، ووضع الأم  الحزينة المكلومة نفسيا وجسديا ومعنويا، لا يسمح.

وصل "الخال" الى عين المكان، وتجولنا معه لنحصي تفاصيل الإجرام والعدوان، كان المشهد فظيعا ومؤلماً وموجعاً، يعكس حقد ووحشية الاحتلال وفاشية وعنصرية جنوده. وجدنا شواهد كثيره تؤكد ان المعتصم تحصن في بيت الدرج، واتخذ منه قاعدة ارتكاز للاشتباك، يدخل عليه ويخرج منه، يصعد فيه وينزل اليه، كان الظلام دامساً فقد دمر الاحتلال خطوط الكهرباء. استخدمنا ضوء اجهزتنا الهاتفيه الخلوية، نستكشف آثار ونتائج الاقتحام البربري الغاشم. وجدنا قنوات متوازية من دماء المعتصم الطاهرة وقد انسابت من بسطة الدرج الوسطى الى شاحط الدرج الأسفل. فوق البسطة ذاتها،  وجدنا كوفية، مرقطة معقودة، غارقة بالدماء، مما يشي ان المعتصم كان مصاباً، واستخدمها  لتضميد جراحه.  

بحثنا بلا طائل عن المعتصم ووسام، في كل مكان بالبيت، تحت الردم وبين الانقاض في الداخل والخاج. كان الدخان في الطابق العلوي ما زال يتصاعد، ورائحة البارود منتشرة في الارجاء، والأثاث محطم ومحترق، في غرف اخترقت جدرانها الصواريخ وانفجرت، لتنثر مئات الشظايا على الأسقف والارضيات وجدران جميع الغرف. اما اعمدة وجدران غرف الطابقين الاول والثاني، فقد دمرتها جرافات الخراب، لكن المفاجاة المدوية تمثلت بالعثور على "بارودة" المعتصم التي أخفاها عن الانظار بعناية، كي لا تدنسها أيادي القتلة من جنود الاحتلال حتى بعد استشهاده، وقد عُثر الى جانبها على ثماني مخازن فارغة تماما، فقد قاتل بصلابة وشراسة حتى نفذت ذخيرته.  

     لم نجد المعتصم او وسام ، لكن جموع الشباب الغاضبين وجدوا جثمان الشهيد اسلام العلي، وجثمان الشهيد زياد الدعمة، اللذَيْن أُعْدما بدم بارد في جريمة حرب مشهودة، مع بدء الاقتحام والحصار. لم يَطُل بنا البحث طويلاً، حتى علمنا من أحد شهود العيان الموثوقين ان جثمان المعتصم قد أُخْتُطف من قبل قوات الحقد النازية، وظل مصير "وسام" غامضاً، لنعرف بعد حين، انه أصيب عندما قفز من الطابق الثاالث، ومن ثم اعتقلته القوة الفاشية المهاجمه.

     رحمك اللَّهُ يَا المعتصم، واصطفاك مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ماجداً خالداً مخلداً، فقد رفعت بشموخ بيرق العزة والنقاء، ونقشت اسمك بمداد البطولة والشرف وأصالة الانتماء، ليظل ارثك النضالي نبراسا للسائرين على دروب التضحية والبذل والعطاء، وداعاً يا صديق الاسرى، وغرة الشهداء، و رفيق المجاهدين الأوفياء، وبوصلة الحق واليقين لكل الباحثين عن وطن ممن أزالوا الفواصل ما بين الواقع والمجاز، و خبروا القسمة بين الممكن والاعجاز.

      فلتبقى بسمة الأقمار الثلاثة (المعتصم وزياد واسلام)، تطوف الارجاء بالاتجاهات الأربعة، لتشرق على قلوب مكلومة مستبشرة بحتمية الانتصار، ولترسم معالم مسارات العودة الى فضاءات الساحل المُنتظِر، لكم المجد يجثو صاغراً تحت اقدامكم المتجذرة في بطن الأرض, المطهّرة بغيث تضحياتكم النازفة عزة وفخار وكرامة.