نهوض شعوب العالم في مواجهة فكر الإستعمار الجديد ، فرصة فلسطينية تاريخية يجب إستثمارها .
مروان أميل طوباسي

في زمن تتسارع فيه الأحداث ، وتتكشف فيه ممارسات الأحتلال الإسرائيلي المدعوم سياسياً وعسكرياً من تحالفات عالمية يمينية شعبوية ونيوليبرالية ، تظهر حركة شعوب العالم الحرة الرافضة للظلم والأحتلال كقوة جديدة لا يمكن تجاهلها . هذه اللحظة التاريخية تضع أمامنا نحن الفلسطينيين فرصة نادرة لأستثمار هذا النهوض الشعبي العالمي ، ورفض مشاريع الإستعمار الجديدة التي تسعى لتدمير وطننا وتصفية قضيتنا الوطنية التحررية وتغيير وجه المنطقة .
من يتأمل اليوم مشهد الشوارع المشتعلة بالهتافات في عواصم العالم ومدنه ، من نيويورك إلى جوهانسبرغ ، ومن لندن إلى سانتياغو وطوكيو مرورا ببرلين وباريس وأثينا ، يدرك أن ما يجري اليوم في فلسطين ليس قضية محلية ، ولا نزاعا إقليميا محدودا ، بل هو مرآة تعكس الصراع الأعمق بين عقلية إستعمارية متجددة وإرادة الشعوب الحرة حين تتحول قصة فلسطين الى مشروع أممي تحرري لهذه الشعوب .
لقد تغيّر وجه الإستعمار ، لكن عقليته لم تتبدل . فالأحتلال العسكري المباشر الذي عرفته قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في القرن الماضي تحوّل اليوم إلى منظومة أكثر تعقيدا ، تحالفات سياسية واقتصادية وإعلامية، تفرض الهيمنة تحت شعارات “الأمن”، و“النظام العالمي”، و“القيم الديمقراطية” التي لا تُطبّق إلا على من يختار الغرب حمايتهم .
في قلب هذه المنظومة يقف التحالف الأمريكي – الإسرائيلي ، ومعه قوى اليمين الأوروبي التي عادت تُعيد إنتاج خطاب التفوق الحضاري وتبرير العنف ضد الآخرين ، تماما كما فعل أسلافهم في القرون الماضية حين اعتبروا الشعوب المستعمَرة "أقل شأنا" و"بحاجة إلى التهذيب" . الفارق الوحيد أن إسرائيل تمثل اليوم رأس الحربة في هذا المشروع ، وهي ترتكب جرائمها بحق شعبنا الفلسطيني وشعوب المنطقة بغطاء سياسي وعسكري من هذه القوى يفضح ادعائتها الأخلاقية المزعومة .
لكن في مقابل هذه العقلية ، تتقدم الشعوب الحرة بخطوات واسعة غير مسبوقة . المظاهرات المليونية، والمقاطعة الاقتصادية ، والضغط الشعبي على البرلمانات والحكومات ومحاصرة الموانئ لمنع ارسال شحنات الأسلحة او استقبال الاسرائيلين وبضائعهم ، كلها اشكال اخذت بالتطور والإبداع تعبيراً عن وعي متنامٍ بأن ما يجري في غزة والضفة والداخل بحق الشعب الأصلاني الفلسطيني صاحب هذه الأرض ، ليس حدثا منعزلاً ، بل امتداد لصراع عالمي على قيم العدالة والحرية والكرامة والسيادة الوطنية وحق تقرير المصير للشعوب .
بالنسبة لنا نحن كشعب فلسطيني ، لا يمكننا أن نكون متفرجين أمام هذا التحول في الوعي العالمي ، بل علينا أن نكون أكثر فاعلية في استثمار هذه اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرر . هذا النهوض العالمي هو فرصة ذهبية لإعادة طرح قضيتنا على الساحة الدولية بثبات وبقوة أكبر تحددها المصلحة الوطنية العليا لشعبنا في وجه جرائم التطهير العرقي والتهجير والتجويع كاولوية الآن ، وكسر الحصار السياسي والإعلامي الذي حاولت القوى الاستعمارية فرضه لعقود .
ولكن النجاح في استثمار هذا الدعم لا يأتي بمجرد الاحتفال بهذا التضامن مع كفاح شعبنا وتضحياته الجسام ، او اصدار بيانات التأييد لها . بل يتطلب رؤية سياسية واضحة وخطة عمل وطنية تضمن أن يبقى صوتنا مسموعا ومؤثراً . علينا أن نتمسك بحقوقنا الوطنية غير القابلة للتصرف أو القبول بفرض "حقائق جديدة" على الأرض بحجج الواقعية السياسية او اختلال موازين القوى ، من مثل ما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" أو مخططات "إسرائيل الكبرى" التي تسعى لتصفية قضيتنا الوطنية وإلغاء وجودنا .
في هذه المرحلة ، يجب على القيادة الفلسطينية في منظمة التحرير التي تحتاج الى القرار بأستنهاضها الجاد والفعلي لتعكس مفهومها كجبهة وطنية عريضة ، والمؤسسات الوطنية، ومختلف الفصائل والقوى الاجتماعية والأهلية ، أن توحد الصف وتنسق الخطوات لأستثمار هذا الزخم الشعبي العالمي في الضغط على الحكومات الغربية وحلفائها ، وكشف زيف ادعاءاتهم عن “السلام” و”الأمن”.
كما يجب تعزيز العمل الشعبي الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، عبر دعم كفاح شعبنا ومقاومته الشعبية والسياسية والقانونية بكل أشكالها المشروعة ، وتفعيل المقاطعة السياسية والاقتصادية والثقافية ، وتكثيف الحملات الإعلامية التي تكشف الوجه الحقيقي للأحتلال الإستعماري وأدواته .
إن النهوض العالمي الحالي ليس هبة عابرة ، بل هو اختبار حقيقي لقدرتنا على فرض إرادتنا الوطنية في وجه عقلية استعمارية جديدة تحاول استدامة الهيمنة عبر أدوات سياسية واقتصادية ، ومحاولة طمس هويتنا الوطنية وتصفية وجودنا .
واليوم ومع اقتراب موعد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول القادم ، تبرز أهمية المبادرة السياسية العملية ، ما يتطلب التقدم بورقة ضغط فلسطينية جادة بإعلان "دولة فلسطين تحت الأحتلال" أمام هذا اللقاء الأممي ، مع التوجه لإستكمال إجراءات العضوية الكاملة للدولة في المؤسسات الأممية بعيدا عن القيود والالتزامات التي فرضها اتفاق أوسلو ، والذي بات من الماضي .
ليكون بذلك ، الأعتراف بدولة فلسطين ليس مجرد تظاهرة سياسية رمزية لا تأثير لها على مجريات الأمور ،لكن نحو ضرورة إنهاء الأحتلال ومعاقبة اسرائيل ولكي لا يكون الحديث عن مبدأ حل الدولتين وتجسيد معادلته وفق حدود ما قبل الرابع من حزيران عام ٦٧ ، حتى تترجم الاعترافات إلى حقائق على الأرض .
خاصة وان قرار الجمعية العمومية في ايلول العام الماضي ٢٠٢٤ قد أكد وجوب إنهاء الأحتلال والأستيطان وأعطى إسرائيل مهلة سنة لعمل ذلك تنتهي الشهر القادم .
وهنا يبقى السؤال كيف ستتعامل مع ذلك الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في دورتها السنوية الشهر القادم بشكل فعال يُبقي احتراما وماء الوجه لقراراتها دون مصادرته من جانب الهيمنة الأمريكية ، ام انه سيتم التغطية عليه وتجاهله في ظل الأجواء المهرجانية للاعتراف بدولة فلسطين والضغوطات التي تمارسها قوى الأستعمار الجديد وبالمقدمة منها الولايات المتحدة .
كل ذلك باعتقادي وكل الوطنيين ، يستوجب فورا تعزيز الديمقراطية والتجديد في كافة فصائل العمل الوطني وبالمقدمة منها حركة "فتح" من خلال ضرورة انعقاد مؤتمراتها العامة المستحقة لأستمرار دورها كحركات للتحرر الوطني ، والدعوة الى الحوار المسؤول العريض للتوافق الوطني على تشكيل مجلس تأسيسي للدولة ، يضع أسس النظام السياسي الفلسطيني المستقل وإعلان دستور الدولة يَصدر بأعلان رئاسي ، ليتبع ذلك إعلان موعد انتخابات برلمان دولة فلسطين ليحل مكان المجلس التشريعي للسلطة الوطنية ، وذلك بالتزامن مع انتخاب المجلس الوطني لمنظمة التحرير ، حين انتهاء عدوان الإبادة والتجويع والتطهير المتصاعد نحو اعادة احتلال غزة ، وضمان اجرائها بديمقراطية ونزاهة وفق الأنظمة والقوانين لتجديد الشرعية الوطنية بعيداً عن أية تدخلات إقليمية أو دولية ، أو قيود أو إستحقاقات تقيدنا أو تفرّقنا ، لكن وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا لشعبنا وأولها وقف حمام دماؤنا النازف بفعل الأحتلال المجرم .
اليوم ، ليس مجرد وقت للاشادة بالتضامن الدولي على أهميته التي ذكرتها فقط ، بل هو وقت العمل والمبادرة السياسية . علينا أن نتحرك بإرادة وطنية موحدة ، نستثمر فيها هذا الزخم الشعبي العالمي الذي بدأ يؤثر على المواقف الرسمية لدول عدة بالغرب في سبيل استعادة حقوقنا كاملة ، ورفض أية حلول جزئية أو فرض وقائع جديدة على الأرض . فالقضية الفلسطينية التي باتت هذه الشعوب تعتبرها انتفاضات وبمثابة حركة جديدة لتجربة الحقوق المدنية زمن النظام العنصري في جنوب افريقيا وفي مناهضة حرب فيتنام . فقضيتنا ومنذ نشأتها ليست قضية ذات بعد وطني او قومي فقط ، بل هي قضية كرامة وحرية الإنسانية التي تنتفض اليوم بأكملها ، وانتصارها هو انتصار لكل هذه الشعوب اليوم ، وهو ما سيعيد للعالم معنى العدالة والإنسانية والمساواة .
ومع ذلك ، وبينما يفتح العالم بشعوبه أمامنا فرصة تاريخية قد لا تتكرر ، لا يخلو مشهدنا الداخلي الفلسطيني من محاولات إلهائنا بقضايا جانبية أو مشاريع عبثية لا تخدم هدفنا الوطني التحرري الجامع . ففي خضم هذا المشهد المعقد واستمرار جرائم الإبادة دون أتفاق بنهايتها بل بتصعيدها لتشمل اعادة احتلال غزة ، يطلّ علينا البعض بما يمثل من مراكز مصالح او نفوذ قد تكون مرتبطة برؤى خارجية بحجج البراغماتية وبأن السياسة هي فن" الممكن "، بأفكار أشبه بمحاولة بناء السقف قبل وضع الأساس من خلال الصراع على مقعد هنا او هنالك ، فلا البناء قائم ولا الأرض مهيأة لتقبل لمفهوم موقع "حاكم" او الاستحواذ من اي طرف على سلطة منفردة ، سوى مؤسسات دولة فلسطين او من خلالها حتى يتسنى اجراء الإنتخابات المفترضة ، وكل ما يجري بغير ذلك عملياً هو إدخال خلاف داخلي جديد إلى ساحتنا الفلسطينية المرهقة أصلاً بما يكفيها من أزمات وتحديات دون توقف العدوان .