الغطاء الأمريكي لممارسات إسرائيل
د. عقل صلاح
تأتي هذه المقالة كمحاولة للبحث في السياق التاريخي للدعم اللامحدود من قبل الولايات المتحدة الأمريكية للحركة الصهيونية، ومن ثم تبني دولة إسرائيل. يتعجب الكثيرون من الموقف الأمريكي المساند لإسرائيل، ويتساءلون عن دوافعه الحقيقة. فالأنجليكان يجدون في الدفاع عن إسرائيل واجباً دينياً في الطريق الطويل إلى المعركة النهائية حيث يفصل بين الشر والخير. وفي هذا الإطار، يقول ستيفن سايزر: أمريكا- إسرائيل بالنسبة إلى الصهيونيين المسيحيين، أمريكا هي الفادي والمنقذ الأكبر أمريكا وإسرائيل توأم، لا تربطهما المصالح المشتركة فقط بل الأسس الدينية عينها.
لا يقتصر الحديث عن الصراع الشرق الأوسطي وخلفياته وإمكانيات حلوله في أمريكا على الجانب السياسي فحسب. فالكنيسة الأنجليكانية ترى في الصراع الحالي بداية نهاية العالم، كما يجد أعضاؤها في مساندتهم لإسرائيل تعجيلاً بالنهاية، كما تم التنبؤ بها في الإنجيل. والصور القادمة منذ نحو عشرة أشهر من قطاع غزة مؤلمة جدًا للإنسانية، كما تؤكد مارجرت ستراتون راعية كنيسة روبنسون درايف: "ما يحدث الآن في إسرائيل والدول المجاورة لها تم التنبؤ به في الكتاب المقدس". في كنيستها الواقعة في تكساس، يدعو المصلون من أجل السلام في الشرق الأوسط، لكن دون إيمان بإمكانية تحقيقه. فالكنيسة الإنجليكانية المحافظة تؤمن بأنه قبل الوصول إلى السلام، يجب أن تقوم حرب دامية مدمرة. وبالنسبة لستراتون ولملايين من الأمريكيين، بدأت المعركة الأخيرة، معركة هرمجدون حيث يتقابل الخير مع الشر في إسرائيل وينتصر الخير، ويقضى على كل من هو غير مسيحي. حينئذ سيعود المسيح إلى أورشليم ليحقق السلام في العالم.
تناول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه "حالة التطهير العرقي في فلسطين، كسياسة محددة تهدف إلى إزالة مخططاتها لمجموعة أُخرى من أرض معينة، على أساس ديني، عرقي، أو قومي، وتتضمن هذه السياسة العنف، ويتم تنفيذ هذا بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة. ويؤكد بابيه أن ما جرى في فلسطين، هو عملية تطهير عرقي كخيار شرعي بالفكر الصهيوني، منذ ثيودور هيرتزل، وصولًا إلى بن غورين، وقد نجحت إسرائيل في عملية التطهير للمجتمع الفلسطيني، من سكانه في مراحل عدة، لم تبدأ بالنكبة، فقد ناقشت الحركة الصهيونية مع الغرب، خاصة بريطانيا وأمريكا، قضية ترحيل الفلسطينيين ما قبل النكبة، وقد أكدت الوقائع أن هذه الدول كان لها دور في عملية التطهير والتهجير التي تعرض لها الشعب الفلسطيني.
وهذه العملية لم تكن لتنجح لولا ذلك الدعم السياسي والمساعدة الكبيرة من قبل الغرب المساهم بدرجة أو بأُخرى بالمسؤولية عما حدث للشعب الفلسطيني، على مستوى الدول ساهمت بتغيير خارطة العالم الخاضع للاستعمار. ولا يمكن إعفاء المؤسسة الدولية الأمم المتحدة من دورها المشارك بإدارة التوزيع والتقسيم، بل ومنح أرض فلسطين كحق للفلسطينيين بالقانون الدولي الذي أقرته لمن لا يملك الحق.
أثناء قمة كامب ديفيد الثانية التي عقدت في سنة 2000 تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وحضور الرئيس الشهيد ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، التي فشلت، ليس بسبب الموقف الفلسطيني المتعنت كما تزعم إسرائيل، وإنما بسبب اللاءات الإسرائيلية بشأن اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، حيث عرضت إسرائيل تنازلات رمزية تختزل قضية حق العودة في إطار جمع شمل العائلات ضمن شروطها ومعاييرها، وتوطين اللاجئين في أماكن وجودهم، وإضافة بند إلى الاتفاق يفيد بوضع حد للصراع من شأنه أن يحررها من كل مطلب مستقبلي بشأن تلك القضية، وهو ما يعني دفن أي مسؤولية لها عن اللاجئين. كما تواتر الموقف الإسرائيلي مع خطة خريطة الطريق سنة 2003، بإيراد 14 تحفظًا بشأن رفض حق العودة وتقسيم القدس وإزالة المستوطنات. كما تكرر مع رفض المبادرة العربية للسلام، التي أُقرت في بيروت سنة 2002، ووضع شرط الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية أمام المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط في أنابوليس تحت الرعاية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر2007. وقد تبنت أمريكا المطلب لتبديد مخاوف الاحتلال، فجاء في كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في مؤتمر العقبة سنة 2003 أن أميركا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية.
يحاول العديد من المفكرين الصهاينة في الفترة الأخيرة تكييف الفكر الصهيوني مع الواقع ومتغيرات العصر. وهذه المحاولات تعكس أزمة هذا الفكر في قدرته على وصف إسرائيل على أنها دولة ديمقراطيّة، فيما تتغاضى هذه المحاولات عن ماضي وحاضر هذه الدولة الاستيطانية وممارساتها وتصويرها كما أنها نمت نموًا طبيعيًا أو أنها امتداد لدولة مُتخيّلة في ماضٍ سحيق. والمطلوب هو ربط حلقاتها المتقطعة والانطلاق من حاضرها مع إسدال أية مُمارسات في الماضي الصهيوني القريب، التي من شأنها أن تُشكل عائقاً أمام هذه المحاولات. وفي تعريف إسرائيل لذاتها فهي دولة ديمقراطية علمانية مُتقدمة تنتمي إلى العالم الحر وتُواجه على الدوام عدوًا عربيًا أو فلسطينيًا يُهدد وجودها في المنطقة، وهو ما يُعيق من فرص تطورها وتحويلها إلى دولة ديمقراطيّة مدنية إسرائيليّة مزدهرة.
بالطبع، إن هذا التعريف يُعاني من قصور، وهو أقرب للدعاية الإعلامية أكثر منه تعريفًا سياسيًا وفكريًا لهذه الدولة، فهي تنتمي إلى نمط الدولة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية التي تسعى إلى حسم صراعها مع السكان الأصليين أي الفلسطينيين، وتستخدم في سبيل هذه الغاية كافة الوسائل، بما فيها حرب الإبادة، لإقصائهم عن الوجود، وفي هذه الحالة فإنها تسعى للانتقال مباشرة من الحالة البربرية إلى الحالة الديمقراطية. وما يُميز إسرائيل عن بقية التجارب الاستعمارية الاستيطانية الأُخرى هو أنها لم تحسم صراعها بعد مع السكان الأصليين، ومع ذلك فإنها تتشبث بديمقراطيتها.
فإسرائيل، ولأسباب تحتاج إلى بحث ومقاربات فكرية واجتماعية ونفسية سياسية، باتت تُكثر من هذه الاستخدامات الخطابية، وتُحاوِل دوائرها الأكاديمية والثقافية والسياسية جسر الهوة السحيقة بين الشعارات التي ترفعها والتي تتنافى تمامًا مع الواقع وبين مُمارساتها الإجرامية بوصفها كيانًا استيطانيًا استعماريًا، ومُواصلة الادعاء أنها دولة ديمقراطية تُعاني من بعض الإشكاليات ذات الطابع الوجودي، وأنه سيكون بوسعها أن تتخلص من ماضيها الاستعماري العدواني والوظيفي، وتغدو أكثر استقلالاً وديمقراطية وليبرالية. فجميع هذه المقاربات والمحاولات في ظل حربها الوحشية منذ عشرة أشهر على القطاع لم تنجح إسرائيل في تجميل صورتها، بل أصبحت دولة مجرمة تمارس حرب الإبادة والتجويع وقتل الأطفال والنساء وترفض الانصياع للقوانين والمنظمات الدولية، كل ذلك صب في تعرية هذه الدولة على المستويات الشعبي والحقوقي والسياسي العالمي وأصبحت صورتها مقرونة في المجازر والدماء.
لقد اتضحت صورة الإدارة الأمريكية قبل وبعد السابع من أكتوبر من خلال الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود على جميع الصعد والمستويات؛ فمنذ بداية الحرب على القطاع سافر وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بليكن إلى إسرائيل في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، للتأكيد على تضامن الولايات المتحدة مع إسرائيل، وتعزيز أمنها. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين "لن تنسى إسرائيل الدعم الأمريكي في هذه الأيام الصعبة".
ويقول الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه ما دامت الولايات المتحدة قائمة، فإن إسرائيل لن تقف وحدها أبداً. وهذا ما أكده بليكن في زيارته الرابعة إلى إسرائيل بعد السابع من أكتوبر "كررتُ التزامنا لتوفير ما يلزم للدفاع عن إسرائيل".
حتى في المناظرة الانتخابية التي حصلت بين جو بايد والرئيس الأسبق المرشح للرئاسة دونالد ترامب في 27 حزيران/ يونيو 2024، كرر ترامب مواقفه المعروفة مثل لو أنه كان رئيسًا لما تجرأت حركة حماس على مهاجمة إسرائيل، ووصف بايدن بـ"الفلسطيني السيئ". إن مناظرة العجوزين تتلخص في التصارع والتسابق على حماية إسرائيل، وإبادة الشعب الفلسطيني، ولعل زيادة عدد الشحنات العسكرية للسلاح على الرغم من أن إسرائيل استخدمت هذه الأسلحة لقتل الأطفال والنساء، تؤكد أن ذلك يصب في الدعم اللامحدود لإسرائيل لكسب ود اللوبي الصهيوني في أمريكا وتحفيزهم للتصويت لبايدن.
استنادًا إلى ما سبق، فمنذ عشرة أشهر تقريباً وإسرائيل ترتكب المجازر بحق المدنيين في القطاع والضفة، ووصل الحد إلى حرب الإبادة والتجويع التي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف شهيد وأكثر من 90 ألف جريح، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وتدمير 85% من مساكن القطاع والمستشفيات ودور العبادة ومراكز الإيواء، كل ذلك بغطاء أمريكي من خلال تعطيل معاقبة ومحاسبة إسرائيل من خلال ممارسة سياسة حق النقض "الفيتو" أكثر من أربع مرات في مجلس الأمن لمنع محاسبتها وحتى منع وقف حرب الإبادة والتجويع.
ولا بد من الإشارة إلى أن أمريكا لم تدعم إسرائيل ماليًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا فقط، بل هي شريك فعلي في القتال وإدارة الحرب، فجميع الصواريخ والقنابل المحرمة دوليًا التي ارتكبت بها إسرائيل المجازر هي أسلحة أمريكية، والمعلومات الاستخبارية هي أمريكية، إضافة إلى أن قوات النخبة الأمريكية "دلتا" شاركت في القتال في القطاع، وهذا يؤكد بوجه قطعي أن الولايات المتحدة من خلال كل الإدارات المتعاقبة وحتى القادمة ملتزمة في حماية إسرائيل وحتى القتال عنها، وهذا يُعبر عن البُعد الجديد ما بعد السابع من أكتوبر أن أمريكا كانت تشكل غطاء لممارسات إسرائيل النازية والوحشية؛ وحاليًا أصبحت أمريكا شريكًا أساسيًا في الحرب لإبادة الشعب الفلسطيني وتجويعه وهذا أصبح واضحًا حتى في دعاية المرشحين للرئاسة الأمريكية.
* كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية