صوت من أرض محاصرة

بقلم الكاتب : محمد أبو عيد
هي ليست دمعة فقط، ولا انتظارًا على بوابةٍ أُغلقت بالسلاح. هي امرأة من مخيم طولكرم، تمشي نحو الحصار بخطى مثقلة بالتاريخ، تحمل في يديها المفاتيح القديمة، وفي عينيها صورة بيت لن يُمحى. لم تسأل الجنود عن تصريح، ولم تتوسل الدخول، بل وقفت وقالت: "أنا هنا… لأن حقي لا يُنسى، ولأن هذه الأرض تعرفني كما أعرفها."
في نور شمس، كما في طولكرم، لا يحتاج الفلسطيني إلى تعريف. يكفي أن يُولد على تراب المخيم حتى يُصبح جزءًا من معركة طويلة، لا تُقاس بالسنوات، بل بالصمود، وبالحجارة التي تحمل أسماء الشهداء، وبالأزقة التي لم تعرف يومًا الراحة. هنا البيوت لا تُبنى بالإسمنت فقط، بل تُرفع على أكتاف الذاكرة، وتُحصَّن بالإصرار على البقاء.
جنود الاحتلال لم يمنعوا الأهالي من دخول بيوتهم فقط، بل أرادوا نزع الأمل من قلوبهم، ولكن المخيم لا يركع. المخيم يعرف أن البيت لا يسكن في الجدار، بل في القلب. كل امرأة هنا تحمل داخلها خريطة فلسطين، تحفظ أسماء القرى، وتعرف عدد أشجار الزيتون في الحقل، حتى لو لم تره منذ عقود.
أطلقوا الرصاص، صرخوا، هددوا… لكن الأطفال ظلوا يشيرون إلى البيوت من خلف الركام، ويقولون: "سنعود". النساء لم يحملن سوى ملابس لأطفالهن، لكنهن حملن معها حكايات كاملة عن العودة، عن المفتاح، عن الدار التي تنتظر على الجانب الآخر من الزمن.
في نور شمس، حيث الشمس تسكن الأسماء، لا شيء يُنسى. كل زقاقٍ فيه حكاية شهيد، كل جدارٍ يحمل أثر رصاصة، وكل حجرٍ نُزع من مكانه سيُعاد. هنا لا تموت الفكرة، لأن فلسطين ليست خيالًا، بل إرثًا حيًا، يُغذّيه الحصار ويكبر تحت الأنقاض.
يخرج الأهالي في مخيم نور شمس، يقفون على تلة مرتفعة تسمى "الأحراش"، ينظرون يوميًا إلى بيوتهم وهي تُهدم، وإلى جرافات الاحتلال الإسرائيلي تنهش في أكبادهم قبل بيوتهم. هل هناك ألم أشد من أن ترى حياتك، بيتك، ذكرياتك، نفسك وحتى روحك تُهدَم أمام عينيك؟ هذا هو حال الأرض المحاصرة، كنور شمس المحاصرة، كمخيم طولكرم.
يحاصرون جغرافية المكان ويدمرون الأرواح، لكن الأرواح لا تُهدم، وإن انكسرت، تتعافى لتعيد بناء ما هدمه هذا الوحش الذي خرج من بواطن الكتب، والذي يعرفه أهل المخيمين جيدًا. فجداتهم حدثنهم عنه، حينما هجّرهم من حيفا ويافا، من مدنهم وقراهم في فلسطين المحتلة.
وحدثنهم أيضًا عن شيء اسمه "المجتمع الدولي" الذي لم يفعل شيئًا حينها، فكيف سيفعل شيئًا الآن؟ يعرفون جيدًا أن لديهم أنفسهم، أحلامهم، ذكرياتهم، ووصايا أجدادهم ثابتة في أرضهم، وفي بيوتهم.
يَسير الجنود في المدينة، يعتقلون، يغلقون المحلات التجارية، يقفون المارة، وأحيانًا يعتدون عليهم، ويوقفون طلاب المدارس. تجوب الجيبات العسكرية المدينة مطلقة صفاراتها في وسطها، وداهمات البيوت ليلاً تعلن أن المدينة بين أيديهم، لكنها تعلم منهم جيدًا، وتعلم من أبنائها، وترفض وجوههم الغريبة عنها.
المخيم لا ينهزم، لأن فيه من قرروا ألا يعيشوا إلا واقفين. لأن فيه نساءً يعرفن أن العودة ليست حلمًا، بل وعدًا، ولأن الأطفال يرسمون خارطة الوطن على جدران البيوت المهدّمة، كأنهم يكتبون للعالم كله:
سألت عددًا كبيرًا من أطفال النازحين: ما أجمل شيء في هذا العالم؟
قالوا بكل ثقة: المخيم هو أجمل الأشياء، وأجمل الأماكن.
وأنا أثق في الأطفال وعودتهم حتمية.