مسارات الحرب والتفاوض ما بين نتنياهو والقوى الفاعلة في إسرائيل

يوليو 16, 2024 - 10:42
مسارات الحرب والتفاوض ما بين نتنياهو والقوى الفاعلة في إسرائيل

بقلم: برهان السعدي

     المتابع لمواقف وتصريحات نتنياهو يدرك أنه يعتبر نفسه القائد الأعلى، والحاكم المطلق، فهو رئيس الوزراء، وهو الذي يقرر. أمام ذلك رجعت إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، وقرأت عن هتلر، قائد الحزب النازي الألماني، والذي بعد فوز حزبه النازي عُين مستشارا لألمانيا، الرايخ الثالث، وبعد وفاة الرئيس الألماني سنّ هتلر قانون التمكين، فوضع جميع صلاحيات الرئاسة والمستشار بيده، فشدّد على مبدأ القيادة الذي كان يعني طاعة الأتباع العمياء لقادتهم. اعتبر هتلر بنية الحزب، ولاحقًا الحكومة، كهرَم، وهو شخصيّاً في موقع القائد المعصوم عن الخطأ في القمة. وآمن هتلر إيمانًا عميقًا بأن قوة الإرادة لها دورٌ حاسم في رسم المسار السياسي للدولة، وسوّغ تصرفاته بناءً على ذلك.

     وبتتبع شخصية نتنياهو ومسيرته كرئيس وزراء إسرائيل خاصة في فترة ما بعد السابع من تشرين أول، يجد الباحث أنه ورغم تشكيله مجلس حرب ليساعده في حربه على غزة، ورغم تشكيله مجلس مصغر من الوزراء، والرجوع إليهم بين آونة وأخرى، وفي القضايا الهامة، فيوافق على قراراتهم إن توافقت مع رأيه، واعتبرها موقف الحكومة، وإن اختلفت مواقفهم عن موقفه، اعتمد على قراره بتصريحه علنا أنه رئيس الوزراء وهو الذي يقرر.

     يخطئ من يعتقد أن سبب مواقفه المتطرفة والمتشنجة وتصلبه في سياقات الحرب والتفاوض لإعادة الأسرى الإسرائيليين من أسر حماس عائد إلى خوفه من انفكاك حكومته، وانتهاء مسيرته السياسية، وبداية الحملة القانونية لمقاضاته على كثير من قضايا الفساد، وفشله في مواجهة أحداث اليوم السابع من تشرين، وفشله في إدارة الحرب في غزة.

     ويمكن إيجاز توجهات نتنياهو منذ السابع من تشرين على النحو التالي:

كان مهم جدا لنتنياهو تغيير الصورة السوداء التي ألحقها السابع من تشرين في إسرائيل، من فشل أمني، وضعف عسكري، وترهل إداري ومؤسساتي، أمام مجموعات لا تتعدى العشرات أو المئات، باقتحامها أحدث التجهيزات التقنية الأمنية والأسوار ذات العمق والارتفاع والمحفوفة بكاميرات مرتبطة بأجهزة رادار حديثة، وتمكنها من اقتياد أكثر من مئتي أسير إسرائيلي. وفي المقابل جاءت ردة فعل الجيش الإسرائيلي متأخرة، وانتهجت أسلوب هانيبعل، بقتل الآسر والأسير، أو الخاطف والمخطوف.  

     وبدأت الحرب بالقصف الجوي ثم الدخول البري بأحدث تقنيات الحرب المكدسة في إسرائيل ومستودعات وقواعد الناتو، عبر جسور جوية، وحاملات طائرات أمريكية وبريطانية والمانية وفرنسية وغيرها، مصحوبة بطائرات عملاقة وطائرات تجسس، لتعقب قيادات المقاومة وأفرادها ومحاولة كشف أماكن الأسرى الإسرائيليين. وأمام قوة النيران وتدفق الأسلحة والذخائر الأمريكية والأوروبية أعلن نتنياهو عن أهدافه بتحقيق النصر المطلق، بإنهاء حركة حماس، وتحرير المختطفين، معتقدا أن ذلك سينجز بعد عدة أيام، ثم عدة أسابيع، ثم عدة أشهر.

     وبعد أشهر من عدوانه وحربه على غزة، وتكبد جيشه الخسائر دون إعلان عن حقيقة حجم الخسائر، وباحتلاله شمال غزة، وانتقاله إلى وسط القطاع، وتصويره للعالم أنه باحتلاله رفح سينهي المهمة ويحقق النصر المطلق، بعد الادعاء أنه أنهى على كتائب حماس في الشمال وخانيونس. فاقترف المجازر في رفح، وخاضت قواته المعارك الشديدة، وبعد أسابيع من القتال، اضطرت قيادة الجيش الإسرائيلي إلى الاعتراف بخسائر يومية في صفوف قواتها، بعد فترة طويلة من التعتيم وحظر النشر. ويبدو أن إعلان قيادة الجيش عن خسائر يومية جاء لتقوية موقفها نحو ضرورة إنجاز اتفاق لوقف الحرب وإنجاز صفقة لإعادة المختطفين، على عكس تصورات نتنياهو وبن غفير وسموترتش.

     ومن خلال تدخل الوسطاء، ومبادرة بايدن التي أعلن انها مبادرة من نتنياهو لوقف الحرب والقيام بتبادل الأسرى، أو مختطفين إسرائيليين على حد وصفهم بمعتقلين فلسطينيين. واعتقد نتنياهو أن مرونة حماس هو نتيجة الضغط العسكري الإسرائيلي والتوغل الإسرائيلي باستباحة الدم الفلسطيني واقتراف المجازر الجماعية في صفوف المواطنين الفلسطينيين في الأماكن التي نزحوا إليها بأوامر إسرائيلية واصفة تلك الأماكن بالآمنة.

     وأمام النهوض بالمقاومة في جميع الأماكن التي احتلتها قوات الاحتلال منذ بدء الحرب، واعتبرتها نظيفة من كتائب حماس، وإيقاع الخسائر اليومية بأفراد الجيش الإسرائيلي الغازي ودباباته ومركباته، اعتبر نتنياهو أن الموافقة على وقف إطلاق النار هو هزيمة لإسرائيل، فقرر ارتكاب جرائم ومجازر أكثر حدة، موهما نفسه أن هذه هي الطريق المثلى لرفع حماس والمقاومة راية الاستسلام. ويتفاجأ أن المقاومة تشتد، وأن قادة الشاباك والموساد وقادة الجيش يؤكدون أنه من غير الممكن هزيمة حماس، أو فرض شروط نتنياهو عليها، كعدم الانسحاب من محمر فيلادلفيا وتوسيعه، وعدم السماح بعودة المواطنين إلى شمال غزة.

     وتأتي مسألة اليوم التالي للحرب، حيث موقف نتنياهو رافض لمشاركة حماس في الحكم، ومشاركة السلطة الفلسطينية أيضا في إدارة غزة بعد الحرب، وبعد فشله في عدة خيارات وبدائل فلسطينية هزيلة تمثل دور روابط القرى في الضفة الغربية في سبعينيات وثمانينات القرن السابق، أو على غرار كتائب سعد حداد ومن بعده أنطون لحد في الجنوب اللبناني، اعتبر أن الخيار الأفضل هو فرض الحكم العسكري على قطاع غزة، إلا أن قيادة الجيش والأجهزة الأمنية ترفض ذلك، لعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على فرض هذا الخيار، خاصة أن الجيش الإسرائيلي اليوم وعلى لسان قادته أنه يعاني من نقص في الدبابات ونقص في الأفراد والمدربين، مما جعل حكومة الاحتلال تقرر أن فترة الخدمة الاحتياطية 36 شهرا بدلا من 32 شهرا، وعدم ضم مجندات لسلاح المدرعات، إضافة إلى قرارهم بتجنيد 3000 جندي من الحريديم، والذي شكل شرخا إضافيا في المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى تقدير قيادة الجيش أن الحكم العسكري لغزة يكلف إسرائيل أسبوعيا 6 مليارات شيكل أسبوعيا.

     إن نتنياهو لم يستوعب أن جيشه وأسلحته وصناعاته العسكرية المتطورة، وأذرعة أمنه، ومشاركة الولايات المتحدة وبعض دول الناتو في القتال الدائر في غزة، لم يستطيعوا حسم الحرب مع مجموعات لا تتعدى المئات من المقاومين، رغم كثافة القصف الجوي والبري والبحري، وسياسة التجويع، وتدمير المستشفيات وخروجها عن الخدمة، ورغم سياسة الإبادة الجماعية التي وقع ضحيتها قرابة أربعين ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن الأبرياء العزل.

     إن نتنياهو يعتبر أن أي اتفاق مع حركة حماس لتبادل الأسرى ووقف جزئي للحرب هو هزيمة له ولجيش إسرائيل وقواها الأمنية، وأن ذلك يعزز هزيمة إسرائيل وفشلها في السابع من تشرين أول، فالموقف الحقيقي لنتنياهو مواصلة حربه على غزة، مهما كانت الضغوط المجتمعية وموقف القوى المعارضة له سياسيا، ومهما كانت المطالب الدولية وعلى رأسها إدارة بايدن، ما دامت هذه المطالب لا تؤثر على طبيعة المدد والمعونات العاجلة لإسرائيل سواء بالأسلحة أو الذخيرة أو الآليات عدا عن مليارات الدولارات كمساعدات عاجلة وطارئة.

     ويريد نتنياهو أيضا أن يتعامل مع غزة كتعامل دول الحلفاء مع المانيا النازية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فالمرحلة الثالثة التي أعلن الجيش الإسرائيلي ابتداءها بملاحقة قيادات حماس، من أجل اجتثاثها وهزيمتها، ويدرك قادة الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية أن المسألة غير مرتبطة بأفراد في مواقع قيادية، إنما هي فكرة وثقافة وقناعات دينية ووطنية ترفض الاحتلال والتهجير رغم القتل والفتك والتدمير.

     وإذا كان قادة الجيش والقادة السياسيون يخشون من تقديم تقييم الموقف لهتلر خوفا على رقابهم، فإن قادة الجيش الإسرائيلي وقادة الأمن يقدمون يوميا تقديرهم للموقف، لكن نتياهو يرفض أن يسمع غير صدى صوته مشكلا دكتاتورا في إدارة الحكم، إضافة إلى أن سموترتش يستهجن موقف قيادة الشاباك والموساد من مسألة الاتفاق الذي يصفه بغير الشرعي.

     فمواصلة العدوان في غزة سيتواصل لهذه الأسباب، حتى لو تمت صفقة تبادل أسرى.