إعداد الباحثة : الاء محمود ثلثين – طالبة ماجستير في تخصص الإعلام وعلوم الاتصال
جامعة فلسطين التقنية – خضوري
يشكّل فيلم Over the Wall (2018) للمخرج الإسرائيلي روي زفراني تجربة سينمائية قصيرة تبدو، للوهلة الأولى، إنسانية وبريئة، تحاول إعادة التفكير في جدار الفصل العنصري لا بوصفه بنية إسمنتية فقط، بل كحاجز نفسي وإنساني يفصل بين البشر. ويقدّم المخرج فيلمه باعتباره عملاً “محايدًا” لا ينحاز لأي طرف، بل يسعى – كما يزعم – إلى رفع الوعي بأثر غياب التواصل، وإيصال رسالة مفادها أن الكراهية ليست فطرية، وأن التغيير يمكن أن يبدأ من “الناس العاديين” عبر الحوار والتواصل
غير أن هذا الخطاب، بكل ما يحمله من نعومة إنسانية، يخفي خلفه بنية دعائية خطيرة، تحوّل الاحتلال من منظومة قمع واستعمار إلى مجرد “سوء تفاهم إنساني” يمكن تجاوزه بالطفولة والبراءة والمشاعر، متجاهلة السياق السياسي] والتاريخي والجغرافي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
ملخص دعائي أم رواية مضلِّلة؟
يقدّم ملخص الفيلم على موقع IMDb – [ وفق رواية المخرج نفسه – قصة صديقين، فتى إسرائيلي وفتى فلسطيني، يلتقيان “بالصدفة” عبر فتحة في الجدار الفاصل، وتنشأ بينهما صداقة رغم الحواجز الاجتماعية والسياسية. هذا التوصيف، الذي يبدو بسيطًا وإنسانيًا، ليس بريئًا، بل هو جزء من خطاب دعائي يفرغ الجدار من معناه الحقيقي كأداة قمع وعزل، ويقدّمه كحاجز عابر بين طفلين “متشابهين”.
الصدفة هنا تُستخدم كآلية لتبييض الواقع؛ فالجدار لا يُقدَّم كجريمة سياسية أو نتاج مشروع استعماري، بل كعائق إنساني مؤقت. كما يكرّس الفيلم مساواة زائفة بين الطفل الفلسطيني والطفل الإسرائيلي، متجاهلًا حقيقة العلاقة غير المتكافئة بين المحتل والمستعمَر، ليُعاد تشكيل الاحتلال على أنه “صراع بين طرفين”، لا جريمة مستمرة بحق شعب كامل.
تغييب السياسة وتسييل المعاناة
منذ اللقطة الأولى، يعتمد الفيلم على ألوان هادئة، إضاءة دافئة، وموسيقى مشوّقة، توحي بحكاية حلمية أو أسطورية، لا بواقع استعماري قاسٍ. تغيب عن الشاشة كل مظاهر الاحتلال اليومية: لا جنود، لا أسلاك شائكة، لا دبابات، ولا أسلحة. الجدار يتحول إلى خلفية رمادية صامتة، لا إلى رمز للقهر والهيمنة.
الأخطر من ذلك هو تغييب أي حضور رمزي للبيئة الفلسطينية: لا بيت، لا قرية، لا علم، لا كلمات عربية. الطفل الفلسطيني يظهر كرمز وظيفي لتوليد التعاطف لا أكثر، دون جذور أو سياق أو تاريخ. وهكذا، لا يتحدث الفيلم عن الفلسطيني من موقعه الحقيقي، بل يستخدمه أداة لتثبيت سردية إسرائيلية ملساء ومقبولة غربيًا.
اللغة والصورة: من يمتلك الرواية؟
يبدأ الفيلم بشاشة سوداء تحمل عبارة:
“إسرائيل – منطقة حدود – قطاع غزة”
باللغتين الإنجليزية والعبرية، مع تغييب كامل للغة العربية. هذا الاختيار ليس تقنيًا، بل سياسي بامتياز. الإنجليزية موجهة للجمهور العالمي، والعبرية لتثبيت المرجعية الإسرائيلية، بينما[A4] يُهمَّش الفلسطيني حتى لغويًا. كما أن توصيف المكان يمحو المدن والقرى الفلسطينية، ويحوّل الأرض إلى “فضاء حدودي” بلا تاريخ.
الإيقاع الصوتي المتوتر في البداية يجعل من الجدار “الشخصية الأولى” في الفيلم، لكنه في الوقت ذاته يُستخدم لتهيئة المشاهد لتقبّل الرواية الإنسانية اللاحقة، حيث تُخفى الحقيقة السياسية خلف الموسيقى والصورة.
الأطفال كأدوات خطابية
عندما يلتقي الطفلان – خالد وناثان – عبر الفتحة، يُصوَّر اللقاء بلقطات متناظرة وزوايا متشابهة، ليبدوا متساويين في الحركة والمظهر. هذا التشابه البصري يصنع وهم المساواة، ويمحو الفارق البنيوي بين طفل يعيش تحت الاحتلال وآخر ينتمي إلى منظومته.
حتى في تفاصيل اللعب، تُعاد إنتاج هذه السردية:
خالد يُصوَّر كمبادر “عنيف” – يشد الحبل بقوة، يرمي الكرة بقسوة – بينما ناثان هادئ، مسالم، يرتدي أدوات حماية، وكأنه دائمًا في موقع الدفاع. في لعبة (X/O) يفوز الطفل الإسرائيلي، في إشارة رمزية إلى الهيمنة والسلطة. وحتى ألعاب السلاح تظهر “ناعمة” (مسدس ماء)، لتكريس فكرة أن العنف الإسرائيلي خفيف وغير مؤذٍ.
الرموز والأسماء: دلالات غير بريئة
اسم خالد يحمل دلالة الصمود والبقاء والاستمرارية، لكنه يُختزل في الفيلم إلى سلوك طفولي “هجومي”، ما يفرغ رمزيته من معناها الحقيقي. أما ناثان، ذو المرجعية التوراتية، فيُقدَّم كطفل أخلاقي، بريء، إنساني. الأسوارة التي يرتديها بألوان علم فلسطين لا تعكس تضامنًا حقيقيًا، بل تقاربًا زائفًا يُجمّل المشهد دون المساس بجوهر السيطرة.
الإعلام والخطاب الأمني
في مشاهد الصف والأخبار، يُعاد إنتاج الخطاب الإسرائيلي الرسمي: الفلسطيني “إرهابي”، والخطر دائم، والجيش الإسرائيلي “يرد” على الهجمات دون تحديد الضحايا. يُقتل مسن وتُستهدف روضة أطفال – وفق الرواية الإسرائيلية – بينما يُذكر القصف الإسرائيلي بلغة تقنية معقّمة. هكذا يُصنع وعي مشوَّه لدى المشاهد، يُجرّم الضحية ويبرّئ الجلاد.
نهاية تبدو إنسانية… لكنها ليست كذلك
في نهاية الفيلم، يُغلق خالد فتحة الجدار، في مشهد يبدو هادئًا وسلميًا. لكن هذه النهاية تعكس الرواية الإسرائيلية ذاتها: التواصل ممكن، لكنه مؤقت، ومشروط بقواعد يفرضها الاحتلال. الطفل الإسرائيلي يبقى بريئًا وإنسانيًا، بينما يُختزل الفلسطيني إلى حركة عابرة في المشهد، بلا عمق لمعاناته اليومية.
فيلم Over the Wall ليس حكاية بريئة عن طفولة وصداقة، بل نموذج واضح على كيفية استخدام السينما لتطبيع الاحتلال، عبر تسييل السياسة، وتوظيف العاطفة، وخلق مساواة زائفة بين الضحية والجلاد. إنه فيلم لا يكشف الجدار، بل يُخفيه؛ لا يفضح الاحتلال، بل يجمّله؛ ويقدّم الرواية الإسرائيلية كحقيقة إنسانية عالمية، بينما يُقصي الرواية الفلسطينية ويحوّلها إلى خلفية صامتة.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة الفيلم خارج سياقه الدعائي، ولا التعامل معه كعمل “محايد”، لأنه – ببساطة – يختار الانحياز، ولكن بلغة ناعمة، وصورة جميلة، ورسالة إنسانية كاذبة





