عن وعي المصلحة ومصالح أخرى

سبتمبر 30, 2024 - 09:31
عن وعي المصلحة ومصالح أخرى

توفيق العيسى

إشاحة النظر عن القضايا شكل من أشكال تكريسها، فعندما تتجاهل حدثاً أو قضية فلا يعني ذلك أنك تغلبت عليها بعقلية الإعلام العربي الذي يعتقد أن تجاهل إعلامه لخبر ما سيمنع معرفة الناس به، في حين أن كل العالمين قد عرفوا.

وها هي قضايا التاريخ تعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة، لأننا أشحنا بوجهنا عنها في حينه.

ولأن هناك من أقنع الناس بأن الوقت غير مناسب أو ضرورة التعالي في سبيل قضايا أكبر أو تقليل من شأن ما حدث طالما استمرار الحياة ممكن، حتى اتخذت تلك القضايا شكل التاريخ الحقيقي، وأصبحت أشكالأ تاريخياً ولغماً ناسفاً في أية لحظة.

وسنظل نحيك نفس الخيبات طالما أننا سنقسم القضايا إلى "فسطاطين" خير وشر، وحق وباطل وعلى فئة أن تتغلب على أخرى وتقضي عليها، وهنا الحديث عن قضايانا نحن وليس عن الصراع بكليته.

فاعتبار أنك الحق وغيرك الباطل هو بحد ذاته صيغة عنفية تدعو إلى نسف أي حوار وجدل وتغليب السلاح والعصبية على أية اعتبارات أخرى.

ننقسم الآن؟! نحن منقسمون في الأصل، وجلنا يعزي نفسه بأنه الى جانب الحق وغيره الباطل، في حين أن القضية باتت أكثر تعقيداً، فهي تصب في اختلاف المصلحة لمن يفترض أنهم متفقون.

لقد عاشت المنطقة ردحاً من الزمن تعتقد أنها متوحدة على قضايا معينة، أهمها قضية فلسطين، وأن لا جدال حول الموقف منها، إلا أن الحقيقة أن هذا التوافق كان سطحياً وأخلاقياً أكثر من كونه سياسياً أو مبدئيًا، فعندما تعرضت شعوبنا لاختبارات حقيقية على امتداد المنطقة، اتضح أن التضامن الأخلاقي ليس كافياً، وأن المنطقة بمكوناتها المختلفة ـ وهذه حقيقة رفض كثيرون الاعتراف بها، من السهل أن تنقسم لعدة مصالح متعارضة، سرعان ما يتحول بعضها إلى تناقض يستدعي تأييدك لعدو غيرك الذي لم يعد عدوك، حتى وإن لم تعتبره صديقاً.

فإذا كانت الناحية الأخلاقية تلزمك بعدم الاعتراف بعدو غيرك صديقاً، فإنها لن تلزمك بالاعتراف به عدواً لك، فقد تحولت دفة التعارض والتناقض إلى وجهة أخرى ومصلحة أخرى.

لذلك سنرى بيت عزاء في بلد ومهرجاناً في بلد آخر، وستجد نفس المهرجان وبيت العزاء في البلد الواحد وفي الحارة الواحدة.

طالما أن الوعي بالمصلحة المشاركة مفقود، ويحل بديلاً عنه وعي مصالح متفرقة تسعى لتعزيز بقاء مكونات المنطقة متفرقة، ليس لخلاف عرقي أو إثني بقدر ما هو خلاف المصلحة الواحدة.

لذلك فإن الوعي بالمصلحة الواحدة أو ضرورتها في أقل تقدير ليس ترفاً فكرياً أو تهويمات أدبية أو عاطفية، بقدر ما هو واقع عليه أن يخرج من إطار الشعار المشترك إلى المصير.

لقد لعبت صورة العدو المتخيلة في أذهاننا دوراً في استسهال هزيمته إلا أن صورتنا المتخيلة عن أنفسنا كانت أكثر ضرراً لنا من صورة عدونا، وفي حين كانت الصورة المتخيلة عن أنفسنا قد بالغت في تعظيم ذواتنا إلى حد ترنح الجسد تحت رأس أثقل منه، إلا أنها حاليا تبالغ في تقزيم ذواتنا إلى حد الدونية.