الضـم ليس قـدراً !!
بتوصية من المستوطنين تم في العام 2023 استحداث "إدارة الاستيطان" في الإدارة المدنية الإسرائيلية، ومهمتها حسم مستقبل الأراضي (ج) في الضفة الغربية لصالح المستوطنين. وفي نفس العام تم تعيين "يهودا إلياهو" رئيساً لهذه الإدارة في وزارة الدفاع. وإلياهو هذا هو الساعد الأيمن لـ "بتسلئيل سموتريتش"وزير المالية ووزير الاستيطان في الضفة الغربية في وزارة الحرب، وكلاهما من مؤسسي منظمة "ريغافيم" التي تحارب ما تسميه "الوجود الفلسطيني" في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، كما أن هذه الإدارة شُكلت بموجب وثيقة صدرت عن "منتدى شيلو" الاستيطاني في العام 2020، وليس بقرار من حكومي.
ومنتدى شيلو، هو مركز دراسات استراتيجي استيطاني، تجد معظم أفكاره وبرامج عمله وتوصياته طريقها للتنفيذ من قبل الحكومة الإسرائيلية. وكان المنتدى قد اتهم في وثيقة صدرت عنه الإدارة المدنية، بأنها لا تملك الأدوات اللازمة للتعامل مع "الاحتلال الفلسطيني" غير الشرعي للمنطقة (ج)، وبأنها بطيئة في الاستجابة للتحديات التي تواجه المستوطنين. وفي النهاية تحققت توصيات منتدى شيلو، بوضع مستقبل أراضي (ج) في الضفة الغربية على أجندة الحكومة، وتسوية أوضاع 70 بؤرة إستيطانية، وبالإعلان عن مساحات كبيرة من أراضي الضفة الغربية كأراضي دولة، مع السعي في المستقبل لتسجيل هذه الأراضي في الطابو الإسرائيلي، ما يعني الضم الكامل والنهائي لها.
ويرى المستوطنون واليمين المتطرف بقيادة نتنياهو والثنائي سموتريتش وبن غفير، أن تعيين "مايك هكابي" المتحمس للاستيطان سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل، يبعث آمالاً كبرى فيما يتعلق بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وذلك على ضوء أن ترامب كان قد خطط في ولايته الأولى للإعلان عن السيادة الإسرائيلية على أجزاء منها في إطار خطة "صفقة القرن". وتفيد تقديرات قادة المستوطنين وممثليهم في الحكومة، بأنه في ضوء تركيبة الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن ترامب لن يعارض فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة أو على أجزاء منها. وحسب صحيفة "إسرائيل اليوم" فإن محافل رفيعة المستوى في الحكومة الإسرائيلية ترى في ولاية ترامب الجديدة فرصة لن تتكرر، وأنه يجب الدفع منذ الآن بخطط للإعلان عن سيادة جزئية على الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية .
إن سياسة ترامب في فترة رئاسته الأولى المجحفه بحق الفلسطينيين لا تزال ماثلة في الأذهان، لهذا فإنه ليس من المعقول التوقع بأن تكون سياسته في فترة رئاسته الثانية مختلفة عن سابقتها. وليس صحيحاً بأنه لن يقدم على دعم خطط إسرائيل للضم، لأنه لم يعد بحاجة لدعم اللوبي الإسرائيلي في واشنطن "إيباك" له، وذلك لأن ولايته الحالية هي الأخيرة، أو بأنه سيعاقب اليهود الذين صوتوا في الانتخابات لصالح الحزب الديمقراطي، أو أنه سينتقم من نتنياهو لتهنئته بايدن بالفوز في 2020. إن التعيينات التي أجراها ترامب لكبار موظفي إدارته، لا تترك مجالاً للشك بأنه سيستأنف سياسته تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في الأربع سنوات المقبله من حيث انتهى في فترة رئاسته الأولى، ما يتطلب مواجهه فلسطينية على الصعيدين الإقليمي والدولي مهما كان ثمن هذه المواجهه باهظاً، لأن عدم المواجهه سيلحق أضراراً فادحة بالكيانية الفلسطينيه، والتي من تبعاتها في المستقبل في حال تنفيذ الضم تهجير الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، وما قد يتبع ذلك أيضاً من مخططات في مراحل لاحقة.
إن ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها لإسرائيل "ليس قدراً لا يمكن تجنبه، فبالإمكان التصدي له بالاستناد إلى القانون الدولي، الذي يعتبر أن المستوطنات اعتداء على الأراضي الفلسطينية، كما أكد ذلك الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في يوليو/ تموز 2024 ، الذي يطالب إسرائيل بإنهاء الاحتلال للضفة الغربية والقدس الشرقية، كما أن إقامة المستوطنات والبؤر الاستيطانية تعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، كما نص على ذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2016.
لكن هناك من سيتساءل مستنكراً: منذ متى انصاعت إسرائيل لقرارات الشرعية الدولية، أو التزمت بالقانون الدولي؟ نعم هذا صحيح، إن إسرائيل لم تطبق أبداً قرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية منذ أن أقيمت في العام 1948، كما أنها لا تلتزم بالقانون الدولي الذي وقعت على الكثير من اتفاقياته، وهي عازمة على المضي قدماً في تنفيذ خطط الضم غير آبهة بالقانون الدولي، لتنتقل بعد ذلك لخطة "حسم الصراع" التي تشكل البرنامج السياسي بشأن القضية الفلسطينية لحزب الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش، والتي هي أيضاً أصبحت برنامج عمل غير معلن للحكومة الإسرائيلية، وملخص هذه الخطة بأن يفقد الشعب الفلسطيني الأمل بإقامة الدولة الفلسطينية، وخلق واقع معيشي صعب ومعقد للفلسطينيين بهدف تهجير أكبر عدد ممكن منهم، على طريق تقويض الكيانية الفلسطينية.
وقد يجادل البعض أيضاً، بأن السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي عاجزة عن التصدي لخطط الضم الإسرائيلية لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، إلا أن هذا ليس دقيقاً، لأن لديها أوراق ضغط للتصدي لمشروع الضم الإسرائيلي بدعم أمريكي لكن هذه الأوراق بحاجة للتفعيل، الذي لا يتم دون توفر إرادة سياسية حاسمة، خاصة أن الضم هو معركة وجود، أولاً وجود للشعب الفلسطيني، وأن ما بعد الضم سيطال السلطة الفلسطينية بكافة مكوناتها أيضاً. ومن هذه الأوراق على سبيل المثال لا الحصر وقف كافة أشكال العلاقات مع إسرائيل، بغض النظر عما قد تتخذه إسرائيل من إجراءات ضد السلطة وقيادتها وضد الشعب الفلسطينيي.
وبإمكان السلطة أيضاً تصعيد حراكها الدبلوماسي على الساحة الدولية، بحشد التأييد لمشروع قرار تطرحه في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمقاطعة إسرائيل بالإرتكاز على قرار محكمة العدل الدولية في تموز 2024، على نمط قرار الجمعية العامة رقم (1761) الصادر عام 1962 ضد نظام جنوب إفريقيا العنصري، والذي طلب من الدول الأعضاء قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارة معه النظام (صادرات الأسلحة على وجه الخصوص)، بالإضافة إلى كافة أشكال المقاطعة السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية. كما أن السلطة الفلسطينية بإمكانها أيضاً، الاستفادة من التأييد الدولي (لا سيما في أوروبا) للشعب الفلسطيني وقضيته، الناجم عن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وحث المجتمع الدولي على ترجمة هذا التضامن لإحباط مخطط الضم وللإعتراف بالدولة الفلسطينية.
إن إدارة ترامب ستجد صعوبة في "إقناع" حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، فيما لو قررت الاعتراف بضم إسرائيل للضفة الغربية أو أجزاء منها، لأن الكثير من دول المنطقة قد غيرت من تحالفاتها وارتباطاتها بقوى دولية منافسة للولايات المتحدة، في الأربع سنوات بين ولايتي ترامب الأولى والثانية، ما قد يجبر ترامب على عدم توفير الغطاء لإسرائيل للمضي قدماً في مخططاتها للضم، خاصة أنه كتاجر يسعى لعقد صفقات مربحة، فقد يلجأ لمقايضة عدم دعمه لمخطط الضم الإسرائيلي، مقابل تطبيع علاقات إسرائيل مع دول عربية.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه لا يمكن التقليل من خطر مخططات إسرائيل للضم وبالمراهنة على احتمال عدم توفير إدارة ترامب الغطاء السياسي لهذه المخططات، إلا أن هذا الضم أيضاً ليس قدراً على الفلسطينيين لا يمكن تجنبه !!