«حين ينهض الكلام ليؤدّب الكراسي»
د. منى أبو حمدية - أكاديمية وباحثة
ليس كلّ مقالٍ يُقرأ… فبعض النصوص تُحسّ، وتستوقف القلب قبل العقل، لأنها تأتي محمّلة برائحة الحقيقة، وجرأة من يعرف الطريق ويدفع ثمنه. هذا ما شعرتُ به وأنا أقرأ للدكتور ياسر أبو بكر مقاله اللافت في جريدة “ے”، مقالًا كشف ما يُقال همسًا في الممرات، ورفعه إلى العلن بحكمة قائدٍ لا يخشى مواجهة الضلال.
لقد كتب الدكتور ياسر نصًا لا يشبه المقالات اليومية، بل يشبه شهادة أخلاقية في زمنٍ كثر فيه الادعاء وقلّ فيه الثبات. وهو، بما يمثّله من تاريخ نضالي ورمز للتضحية، لم يكتب رأياً، بل قدّم مرآة وطنية صافية تعيد تذكيرنا بمعنى العمل العام قبل أن يلوثه الغرور أو تتحكم فيه النزعات الشخصية.
في مقاله، أضاء على التحوّل الأخطر داخل مؤسساتنا: انتقال بعض المواقع من خدمة الناس إلى استملاكهم، ومن إدارة الوظيفة إلى إدارة البشر. تحدّث عن الفرق بين المدير والقائد بطريقة لم تجامل أحداً، لكنها لم تجرح، بل أعادت ترتيب المفاهيم من جديد؛ فرسمت صورة القائد الذي يبني الثقة قبل المكاتب، ويزرع الاحترام قبل التعليمات، ويترك المؤسسة أقوى مما استلمها لا أضعف.
ما كتبه الدكتور ياسر ليس مجرد نقد إداري، بل درس في الأخلاق العامة. إنه استدعاء لاستقامةٍ كدنا نفقدها وسط ضجيج الشعارات، وتذكيرٌ بأن الدولة ليست مظلةً للمحاباة، بل بيتاً عاماً يدخل إليه المواطن مطمئناً على حقه وكرامته. فالمؤسسة التي تتحول إلى “مزرعة خاصة” تفقد رسالتها، والقائد الذي يتوهّم الملكية يفقد ظله قبل هيبته.
أثمّن هذا النص الذي خرج من رجلٍ حر، لم تفسده المناصب، ولم تغيّر معدنه التجارب. رجلٌ يعرف أن الكلام مسؤولية، وأن من يكتب في قضايا الوطن عليه أن يكتب بضمير لا بانفعال، وهذا ما فعله تماماً. لقد جاء مقاله عميقاً، ناضجاً، وضرورياً، لأنه لم يهاجم الأفراد، بل حمى الفكرة: فكرة أن خدمة الناس شرف، وأن القيادة أخلاق قبل أن تكون صلاحيات.
إنّ الوفاء الحقيقي للمؤسسات يكون بقول الحقيقة، لا بتجميل الخلل. ومقاله هذا بمثابة خطوة واثقة نحو إصلاحٍ نحتاجه جميعاً، إصلاح يبدأ من إعادة تعريف العلاقة بين المسؤول وكرسيه، بين المدير ومهمته، بين السلطة وكرامة الإنسان.
ولهذا أقول للدكتور ياسر:
شكراً لك على هذا المقال المنصف، الشجاع، العاقل. شكراً لأنك كتبت ما ينبغي أن يُقال بلا غوغاء ولا تهديد. وشكراً لأنك ذكّرت بأن القيادة قبل كل شيء “صوتٌ يرفع الناس” لا “منصبٌ يرتفع بهم”.
دمتَ قلماً يوقظ، وصوتاً يعلّم، وضميراً يذكّر بأن الوطن أكبر من كل الكراسي، وأعمق من كل المسميات.



