على أعتاب الشهر السادس للإبادة مفاجآت الطوفان ونفسية (المردوع)

مارس 7, 2024 - 10:37
على أعتاب الشهر السادس للإبادة مفاجآت الطوفان ونفسية (المردوع)

قبل أكثر من 150 عام أكد كارل ماركس أن (السياسة جبر وليست حساب)، بمعنى أن المجهول سيد الموقف في التقدير السياسي، لما يمكن أن ينشأ بفعل التطورات والأحداث السياسية. هذه القاعدة إن جاز التعبير، تقدم فائدة كبيرة في قراءة ما يمكن ان يستجد وما حصل فعلاً. إنها تحمي القائد السياسي من الغرق في تأكيدات مطلقة يمكن في لحظة أن تنسفها مفاجأة ما، فيما تساعده، من جهة ثانية، على فهم مجرى الأحداث دون الوقوع في مصيدة جلد الذات لعدم القدرة على التقدير.


لذلك، لم أكن يوماً من المتحمسين لمنهجية (السيناريوهات) في تقدير ممكنات الحركة السياسية وتداعياتها. تلك المنهجية الأكاديمية هامة وللحق، بل ومفيدة، لأنها تقدم، إذا تمتع الكاتب بسمة الشمولية في كتاباته، رؤية ما لممكنات تلك الحركة، ولكنها، وهنا نقيصتها الأهم، تغفل أن الجبر في السياسة يستدعي المجهول الذي لا يمكن للسيناريوهات أن تلتقطه تماماً.


معركة طوفان الأقصى استدعت العديد من المفاجأت لنا ولدولة الإبادة، للمحللين والقادة والمثقفين، وعموم الرأي العام المحلي والعربي، وحتى العالمي، إنني أجزم أن أحدا لم يكن يتوقع تلك المفاجأت حتى في أكثر السناريوهات علمية ومصداقية.


أولاً: حتى حماس لم تكن لتتوقع هذه السرعة بانهيار المنظومة الاستعمارية في غلاف غزة، وهذا ما اشارت له بطريقة ما في وثيقة (رؤيتنا). كل شبكة الحراسات للمستعمرين، والمستعمرين أنفسهم، في مستوطنات غزة، كل القواعد العسكرية في إيرز وفي مواقع مختلفة للقيادة الجنوبية، كل ذلك إنهار في أقل من 6 ساعات. لقد تبجح الصهاينة كثيراً في هزيمة العرب في 6 ايام، وها هي المقاومة تجرعهم ذات الكأس في 6 ساعات. الجيش المصنف الرابع عالمياً من حيث القدرات التقنية انهار تماماً ووقع جنوده بين قتيل واسير. هذا لم يكن متوقعاً بتاتاً، وكان من الصعب تصور نجاح الاجتياح للغلاف بهذه السرعة وذلك النحاج، رغم التقدم التقني الاستخباري، والجاهزية القتالية لدى الكيان وقدراته اللوجستية.


ثانياً: لذلك، تفاجأت حماس ايضاُ بذلك الانجاز السريع وما تحصلت عليه من أكثر من 240 اسير، رغم انه بات من الواضح، وكما أشارت حماس نفسها انه لم يكن تخطيطها اسر هذا العدد، بل حفنة من الجنود ليجري مبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين. ولكن الانهيار السريع للجيش والمستعمرين وفر فرصة لاسر عدد كبير من الجنود، وكذلك لاقتحام سكان غزيين المستعمرات، وأسر عدد مضاعف من المستعمِرين وبمختلف الفئات العمرية. والتطور الأخير ايضاً أشارت له حماس باعتباره نتاج الهزيمة السريعة للجيش، الأمر الذي سمح باجتياج السياج الفاصل لمئات المواطنين، والتصرف (بحرية)، ونقل المزيد والمزيد من المستعمِرين لداخل القطاع.
ثالثاً: ومهما خلص شعبنا، بتجربته التاريخية الطويلة مع الحركة الصهيونية ودولتها في فلسطين، من حقيقة العنصرية والإجرام والقتل وتنظيم المجازر، إلا أنه يبدو أن الجميع، بمن فيهم نحن الفلسطينيون، تفاجأنا بهذا الحجم من الهمجية والرغبة السادية في القتل العشوائي. صحيح أن التهجير والتطهير العرقي على جدول أعمالهم منذ تأسست الحركة الصهيونية، بل وأكثر من ذلك، فلا يستوي المشروع الصهيوني اصلاً دون تهجير وتطهير، ولكن أن تقتل في اقل من خمسة شهور 37 ألفا من السكان، بضمنهم 7 آلاف مفقود، وتجرح أكثر من 70 ألفا وتدمر حوالي 80% من المنازل والمنشآت بمختلف أنواعها، فهذا لعمري لم يكن في حسابات أي سيناريو. واضح أن جوهر المشروع الصهيوني أكثر همجية وعنصرية بما لا يقاس مما كانت التجربة الفلسطينية تثبته.


رابعاً: لقد جرت العادة في الفكر السياسي الفلسطيني والعربي اعتبار ان المجتمع الصهيوني لا يحتمل حرباً طويلة كما لا يحتمل الخسائر الكبيرة. لقد ثبت العكس تماماً. إن الرغبة باسترداد هيبة المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخبارية، استرداد (الثقة المنفوخة) لدى جموع المستعمِرين وجيشهم، وكذا الرغبة بالدفاع عن مشروع باتوا يعتبرون مستقبله مهددا تماماً، كل ذلك يدفعهم لتحمل الخسائر الكبيرة التي تقع بين جنودهم، وتقدر بعشرات الآلاف بين قتيل وجريح، حسب صحفييهم ومحلليهم، لا حسب الكذاب الكبير هاغار الذي يكذب كما يتنفس. وهذا ما دفع إلى ذلك المدى من الرغبة في الانتقام والوحشية والهمجية التي يُظهرونها على شبكات التواصل وفي التصريحات والفعاليات والبيانات، وقتل 118 غزي ينتظرون قافلات المساعدة دليل صارخ على المدى الذي وصلته مؤسستهم ومجتمعهم. قليل جدا، ومعزول ذلك الفريق بينهم الذي يدعوا لوقف إطلاق النار، فيما أغلبية ساحقة تدعو لمسح غزة وشعبها باستمرار الإبادة.

خامساً وأخيراً: لقد تفاجأنا نحن ومعنا الرأي العام المحلي والعربي ونظن العالمي، وبالتأكيد ليس من يقود معركة الطوفان من قيادات المقاومة، بذلك الحجم من الجاهزية القتالية والمراس والتدريب وحنكة التخطيط والتصدي والمناورة التي يبدع فيها المقاتلون، وهذا ليس ما نلاحظه نحن كشعب فقط، بل ما يقوله قيادتهم، الأمر الذي أنتج عجزاً صهيونياً عن تحقيق اي انجاز حقيقي مما أعلنوه، سوى الإبادة والتقتيل والتدمير. من الطبيعي أن تكون المقاوم تلقت ضربة موجعة، وتتلقى يومياً، فذاك منطق الأمور كي لا نقع في مبالغات غير علمية، ولكن الصحيح والظاهر تماماُ أنها على أعتاب الشهر السادس من المقاومة، وما زالت تملك مبادرة القتال في الميدان وتحدد مواقعه وطرقه وتنتقي أهدافها، في الشمال والوسط الذي تبجحوا انهم انتهوا منه منذ 3 شهور، كجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا والزيتون والشجاعية، كما في خانيونس، التي قالوا قبل أسبوعين انهم بصدد الانتهاء منها تماماً. إن المقاومة ومنذ أكثر من اسبوعين، ومع تنشط الحوارات من أجل الصفقة، تحاورهم بالنار كما يفعلون، لا بل وما وزالت تملك القدرة على ضرب عسقلان والغلاف بالصواريخ. لم يكن لأحد أن يتوقع تلك الجاهزية والقدرة مستمرة لخمسة شهور وتدخل شهرها السادس.

لا مقاومة تكون مردوعة اصلاً
النفر القليل الذي يعادي المقاومة، وهذا يظهر هنا وهناك على شبكات التواصل، وفي التعبئة الحاقدة ميدانياً، يستند كثيراً إلى حجم التضحيات فيعلن بسذاجة: الم يتوقع مَنْ أعلن الحرب هذا؟ مبدئياً هذا منطق يتهم حماس بإعلان الحرب، بالضبط نفس الدعاية الصهيونية، وبالتالي من حق (إسرائيل الدفاع عن نفسها) وفق هذا المنطق، ومن ناحية ثالثة، يستند هذا المنطق لهمجية الكيان ليطعن في المقاومة، بدلاً من أن يحمّل الكيان مسؤولية همجيته، والأهم بدلاً من ان يستند لهمجية الكيان لتعزيز روح الصمود والمقاومة. إنه منطق المهزوم الذي يعيش مردوعاً مما يمكن أن يحصل فيما لو قاوم المستعمِر.
منطق المردوع منطق منْ لا يملك الإرادة على اية مقاومة. إنه منطق المستدخل لهزيمته. هذا منطق بسيط: إن قاومنا فهم لن يتورعوا عن فعل كذا وكذا ونحن لا طاقة لنا به، لذلك فلن نقاوم. منطق بسيط جداً ولكنه مستسلم جداً، ولو استشرى هذا المنطق لما تحررت الشعوب من المستعمِرين، ولا كان طوفان الأقصى. بالتأكيد حجم الضرر الذي يوقعه المستعمِر بالشعوب المستعمَرة، أكثر بكثر من حجم الضرر الذي توقعه المقاومة بالمستعمِر، وهذا راجع بطبيعة الحال للتفوق العسكري، ولكن هذا لم يكن في يوم من الايام رادعاً امام مقاومة الشعوب لمستعمِريها. القوي عسكرياً إذ لم ينتصر، (والصهاينة لم ينتصروا)، فهو مهزوم، والضعيف عسكرياً، إذا لم ينهزم، (والمقاومة لم تنهزم)، فهو منتصر.
منهجية المردوع فقط وصفة للاستسلام، مهما إختبأت خلف تبريرات (إنسانية)، حول عدم إعطاء المستعمِر الفرصة للقمع والقتل. إن ما سقناه أعلاه من (مفاجآت) يتم استخدام بعضها، لا لفهم أكثر دقة وجوهرية للكيان بغية استمرار النضال لتحقيق حرية شعبنا، بل لإشاعة نفسية المردوع، وبالتالي الكف عن النضال. تلك سمة المستسلمين لا غير.