البلديات الفلسطينية… ذاكرة الصمود ورهان المستقبل

الكاتب: ربحي دولة

ديسمبر 4, 2025 - 10:15
البلديات الفلسطينية… ذاكرة الصمود ورهان المستقبل

الكاتب: ربحي دولة

منذ اللحظات الأولى لتأسيس البلديات الفلسطينية، لم تكن هذه المؤسسات مجرد أطر إدارية تُعنى بتنظيم الحياة اليومية للمواطن، بل تحولت تدريجيًا إلى ركائز وطنية واجتماعية وسياسية أساسية في مسيرة الشعب الفلسطيني.
فمنذ نشأتها في العهد العثماني ثم خلال الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، حملت البلديات على عاتقها مسؤولية الحفاظ على نبض الحياة وسط ظروف قاهرة، وأثبتت عبر العقود أنها إحدى أدوات الصمود التي لم تتوقف مهما اشتدت العواصف.

وعلى الرغم من الحروب والاجتياحات والانتهاكات المستمرة، لم تتعطل البلديات يومًا عن أداء رسالتها، كانت طواقمها تعمل تحت نيران الاحتلال لإصلاح شبكات المياه والكهرباء وفتح الطرق، وتواصل الليل بالنهار لضمان استمرار الخدمات الأساسية كي لا يشعر المواطن بأن الاحتلال انتصر عليه أو شلّ حياته. وحتى في الأوبئة التي ضربت المنطقة، لم تتردد البلديات في التصدي لها، فكانت في مقدمة المؤسسات التي تولت عمليات التعقيم، وتنظيم الأسواق، وإدارة الأزمات، وتقديم الدعم للفئات المتضررة. لقد أثبتت البلديات أنها تقف في الخندق الأول للدفاع عن بقاء المجتمع، وأن العمل البلدي في فلسطين هو جزء من الفعل النضالي لا ينفصل عنه.

ولأن الاحتلال لا يكتفي بالضغط العسكري، بل يواصل سياسة الضم والتوسع الاستيطاني، وجدت البلديات نفسها أمام دور وطني محوري في حماية الأرض. فهي توثق الانتهاكات، وتضع المخططات الهيكلية التي تمنع مصادرة الأراضي، وتعزز الوجود الفلسطيني في المناطق المهددة، وتشارك في كل مواجهة تتعلق بالحفاظ على الهوية والحقوق. وعلى الرغم من محدودية الموارد وكثرة المعوقات، فقد استطاعت معظم البلديات أن تطور البنية التحتية، وتحسن الخدمات، وتبادر بتنفيذ مشاريع تنموية تسهم في بناء مجتمع أقوى وأكثر قدرة على مواجهة الظروف الصعبة.

ومع اقتراب موعد الانتخابات الجديدة، يتجدد السؤال حول ما يحتاجه المواطن من مجالسه المحلية في هذه المرحلة الحساسة. فالمواطن يريد مجلساً قادرًا على إدارة شؤون بلديته بكفاءة ومهنية، بعيدًا عن المحسوبيات والمصالح الضيقة، يريد مؤسسة قريبة من الناس، تستمع لهمومهم، وتدير الموارد المتاحة بشفافية، وتضع خططًا تنموية حقيقية لا شكلية. إنها مرحلة تحتاج إلى مجالس لا تكتفي بعمليات تجميلية، بل تسعى إلى خلق فرص اقتصادية، وتحسين جودة الحياة، وحماية ما تبقى من الأرض والموارد.

وفي المقابل، يقع على الناخب مسؤولية وطنية كبرى، فالانتخاب ليس مجرد واجب إداري، بل هو قرار يرسم مستقبل البلدة ويحدد قدرتها على الصمود. لا بد للناخب أن يضع مصلحة الناس فوق أي اعتبار شخصي، وأن يختار من يمتلك القدرة والخبرة والنزاهة والرؤية، لا من تربطه به قرابة أو علاقة شخصية. فالوطن لا يبنى بالمجاملات، والمجالس الضعيفة لا تصمد أمام التحديات. إن المشاركة الواسعة في الانتخابات وإيصال أصحاب الكفاءة يشكلان ضمانة حقيقية لحماية مصالح المواطنين، وترسيخ الدور الوطني للبلديات، وتمكينها من العبور بمجتمعاتها نحو بر الأمان رغم كل ما يعيق الطريق.
وهكذا يتبين أن البلديات الفلسطينية ليست مجرد مؤسسات خدماتية، بل هي مؤسسات نضالية وتنموية شكلت عبر تاريخها الطويل ركيزة لصمود الشعب الفلسطيني، وستبقى كذلك ما دام الناس يختارون الأقدر لا الأقرب، والأكثر إخلاصًا وقدرة على حمل الأمانة في هذه المرحلة التي تتطلب كل حكمة وقوة ومسؤولية.
٠ كاتب وسياسي فلسطيني