الذكاء الاصطناعي في خدمة أو قمع حقوق الإنسان: حالة دراسية من الأراضي الفلسطينية

أغسطس 10, 2025 - 10:10
الذكاء الاصطناعي في خدمة أو قمع حقوق الإنسان: حالة دراسية من الأراضي الفلسطينية

بقلم : صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي

في عالمٍ يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، يبرز الذكاء الاصطناعي (AI) كأحد أكثر الأدوات تأثيرًا على حياة البشر، سواء في السلم أو في النزاع. وبينما يحتفي العالم بقدرات الذكاء الاصطناعي في تحسين سبل العيش وكفاءة الأنظمة، تتعالى التحذيرات من استخدامه كأداة قمع، خاصة في المناطق التي تعاني من الاحتلال أو النزاعات المسلحة.

تُمثّل الأراضي الفلسطينية نموذجًا مركزيًا لهذا التحدي: حيث تُستخدم التكنولوجيا لتعزيز أدوات السيطرة والرقابة من قبل الاحتلال، في مقابل محاولات متواضعة لتسخير الذكاء الاصطناعي في خدمة الدفاع عن حقوق الإنسان.

وهنا يتولّد التساؤل الجوهري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون وسيلة لحماية الكرامة الإنسانية؟ أم أنه مجرد امتداد رقمي لعقيدة السيطرة؟

الذكاء الاصطناعي كأداة قمع في فلسطين

في السياق الفلسطيني، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية حيادية، بل أصبح جزءًا من منظومة المراقبة والسيطرة الأمنية، يتجلى ذلك من خلال:

أنظمة المراقبة البيومترية

في مدن مثل القدس والخليل، نُفّذت مشاريع رقابة متقدمة تشمل كاميرات ذكية قادرة على التعرف على وجوه الفلسطينيين وربط تحركاتهم بقواعد بيانات أمنية. وقد كشفت صحيفة واشنطن بوست عام 2022 أن هذه الأنظمة تُستخدم دون علم السكان أو موافقتهم، وتُوظَّف في ملاحقتهم ميدانيًا، وهو انتهاك مباشر للحق في الخصوصية

تحيّز الخوارزميات الرقمية

أشارت تقارير صادرة عن مركز "7amleh – حملة" إلى أن خوارزميات شركات كبرى مثل Meta وTikTok وYouTube تمارس رقابة ممنهجة على المحتوى الفلسطيني، إذ يتم حذف أو تقييد وصول منشورات توثق الانتهاكات أو تنشر الرواية الفلسطينية، بينما يُسمح بخطاب تحريضي ضد الفلسطينيين دون تدخل فعّال

تحليل البيانات الاستخباراتية

تقوم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باستخدام أدوات ذكاء اصطناعي لتحليل سلوك المستخدمين الفلسطينيين على الإنترنت، تتبع كلمات مفتاحية، وتوليد ملفات رقمية تُستخدم في تبرير قرارات كالإبعاد أو الاعتقال الإداري أو سحب التصاريح، دون وجود مسار قانوني شفاف.

الذكاء الاصطناعي كأداة لحماية الحقوق

رغم الاستخدام القمعي، بدأت منظمات فلسطينية ودولية باستثمار الذكاء الاصطناعي كأداة لمناهضة الانتهاكات، والدفاع عن حقوق الإنسان، من خلال:

توثيق الانتهاكات بالذكاء البصري

منظمات مثل Forensic Architecture ومنظمة العفو الدولية تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأقمار الصناعية، ومقاطع الفيديو الميدانية، لتوثيق عمليات هدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية والقصف في غزة والضفة الغربية، وتحويل هذه البيانات إلى أدلة قانونية.

تتبع الأنماط والانتهاكات المتكررة

تُستخدم خوارزميات تحليل البيانات للكشف عن نماذج متكررة من الانتهاكات: مثل التوقيتات المتكررة للاجتياحات، أو استهداف البنية التحتية، مما يعزز من مصداقية التقارير المقدّمة إلى المحكمة الجنائية الدولية من قِبل منظمات مثل "الحق" و"الميزان"

الرصد الرقمي لخطاب الكراهية

يجري تطوير أدوات رقمية قادرة على مراقبة وتحليل محتوى الإعلام العبري، وتوثيق خطاب الكراهية أو التحريض على العنف ضد الفلسطينيين، لتقديمها كأدلة في قضايا التمييز والتحريض أمام المنظمات الحقوقية أو في الحملات الرقمية.

التحدي الأخلاقي والقانوني

إن استخدام الذكاء الاصطناعي في سياقات النزاع يطرح إشكاليات عميقة من الناحية الأخلاقية والقانونية، وتحديدًا في فلسطين، حيث لا تتوفر شروط العدالة المتكافئة. وتبرز أسئلة كبرى:

•    من يضع المعايير الأخلاقية لتصميم هذه الخوارزميات؟

•    هل توجد جهة دولية تضمن عدم استغلال هذه التقنيات في قمع الشعوب؟

•    هل باتت العدالة الرقمية حكرًا على من يملك التكنولوجيا، لا من يحتاجها لحماية حقوقه؟

تقرير اليونسكو (2021) حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي حذّر بوضوح من أن المجتمعات الخاضعة للاحتلال أو النزاعات تصبح أكثر عرضة لانتهاك الخصوصية الرقمية، مما يتطلب إنشاء أطر قانونية دولية صارمة تحدد سقف استخدام الذكاء الاصطناعي بما يضمن عدم تحوّله لأداة استبداد رقمي

نحو تكامل عادل بين التكنولوجيا والقانون الدولي

في ظل هذه التحديات، يمكن تصور نموذج متكامل يربط الذكاء الاصطناعي بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، من خلال:

•    تعزيز التوثيق الرقمي للانتهاكات عبر قواعد بيانات موحّدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

•    دعم العدالة الدولية من خلال تقديم أدلة تحليلية دقيقة ومتسلسلة زمنيًا أمام المحاكم.

•    رفع الوعي الجماهيري من خلال تحليل اتجاهات الرأي العام وتخطيط حملات حقوقية أكثر تأثيرًا.

•    حماية النشطاء رقميًا عبر أدوات تشفير ومراقبة أمان معلوماتهم وهوياتهم

الخاتمة: بين قبضة القامع وأمل المقهور

الذكاء الاصطناعي، شأنه شأن أي أداة، يمكن أن يُستخدم لصنع العدالة أو لتعميق الظلم. في فلسطين، تكشف التجربة الواقعية أن هذه التكنولوجيا باتت أداة مزدوجة: تُستعمل لفرض السيطرة والمراقبة، لكنها أيضًا بدأت تُستثمر من قبل نشطاء ومؤسسات للدفاع عن الكرامة والحق في الحياة الحرة.

وهنا، تصبح المسؤولية جماعية: على المطورين، والمنظمات الحقوقية، والمجتمع الدولي، أن يعملوا لضمان أن لا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى امتداد جديد لسلطة القمع، بل إلى جسر نحو تحقيق العدالة.

إن الذكاء الحقيقي لا يُقاس بعدد الخوارزميات، بل بمدى احترامها لإنسانية الإنسان.