تأجيل الامتحانات واغتيال الاستقرار النفسي .

لا يُعقل أن يكون أكثر الناس دراية بأثر البيئة النفسية على التعلم، هم أول من يخرقون أبسط مبادئها. من المفارقات المؤلمة أن تُؤجَّل الامتحانات في الجامعات الفلسطينية مرة بعد مرة، بحجج "الظروف" دون أي اعتبار لحالة الطلبة النفسية والذهنية، وكأن الطالب ليس إنسانًا يتأثر بالضغط، بل آلة تنتظر التعليمات! والأسوأ أن هذه القرارات تصدر عن نُخَب يفترض أنها مختصة في التربية والعلوم النفسية، من أساتذة ودكاترة ومسؤولين في وزارة التربية والتعليم ومجالس التعليم العالي.
أين البعد التربوي؟ أين البصيرة؟
كل مَن قرأ سطرًا في علم النفس التربوي يعلم أن القلق المرتبط بالاختبارات (Test Anxiety) من أبرز العوامل التي تُضعف التحصيل وتُخلّ بعمليات التذكر والانتباه. وقد أثبتت دراسات متعددة (Cassady & Johnson, 2002؛ Zeidner, 1998) أن حالة عدم اليقين المتكرر تُفاقم من القلق وتؤدي إلى تدهور دائم في الدافعية الأكاديمية، ناهيك عن الأثر العاطفي.
فأين تطبيق هذه المعارف لدى "العلماء التربويين"؟ وأين "الخطط البديلة" التي نتغنى بها في ورش العمل؟ أين الرؤية المستقبلية وإدارة الأزمات؟ هل يُعقل أن مؤسسات أكاديمية عظيمة كمؤسساتنا تفتقر إلى خطة طوارئ واضحة للامتحانات؟ وهل يليق أن يُترك آلاف الطلبة في حالة ترقب أسبوعًا بعد أسبوع، في انتظار قرار مبهم لا يحترم جهودهم ولا مشاعرهم ولا حياتهم؟
التأجيل ليس حلًا... بل جريمة تربوية
في النظرية البنائية (Constructivist Theory – Piaget, Vygotsky)، التعلم لا يحدث في الفراغ، بل في بيئة محفزة ومستقرة تساعد المتعلم على بناء المعرفة ذاتيًا. أما التأجيل المتكرر، فيُدخل الطالب في دوامة من الضغط والتشتت واللامعنى، مما يُفقده القدرة على التركيز، ويقوّض أي دافعية للإنجاز لديه.
أما النظرية الإنسانية في التعليم (Humanistic Theory – Maslow, Rogers)، فتؤكد أن الاحتياجات النفسية الأساسية – كالأمان والاستقرار – يجب أن تُلبى أولًا قبل الحديث عن التعلم. فكيف لمؤسسات تقول إنها "تخدم الطالب" أن تكون أول من يسحب من تحت قدميه شعور الأمان والاستقرار؟ كيف يُربى الطالب على الإبداع في ظل فوضى قرارات لا تراعي التوقيت ولا السياق ولا الكرامة النفسية؟
نوجّه نقدنا الصريح – بل الصارخ – إلى وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وإلى مجالس الجامعات، وإلى الدكاترة الأعزاء جميعا وبالاخص في أقسام التربية الذين صاروا يتفننون في تنظير "التخطيط الاستراتيجي" دون أن يطبّقوا شيئًا منه. فأي جدوى من تدريس مقررات في إدارة الصف، أو الصحة النفسية، أو التخطيط التربوي، أو القيادة التربوية ، أو تصميم التعليم ، أو غيره ، إذا كانت أبسط الأزمات تُدار بهذه العشوائية والتأجيل اللامسؤول؟
ألا تعلمون أن تكرار التأجيل يُنتج حالة من Learned Helplessness (العجز المكتسب)؟ تلك الظاهرة النفسية التي وصفها Seligman (1975)، والتي تدفع الأفراد إلى الشعور بأنهم بلا قدرة على التحكم في مصيرهم. الطالب الفلسطيني اليوم يشعر بهذا بالضبط: مغلوب على أمره، ينتظر "رحمة" قرار لا يملك له بديلًا.
أين الحل؟ لا مزيد من الأعذار
كفى تلاعبًا بمستقبل الطلبة. وكفى استخفافًا بالعلم وبالناس. المطلوب فورًا:
1. إقرار بروتوكول طوارئ رسمي للامتحانات، بحيث لا يُؤجَّل أي امتحان بل يُعقد عبر البدائل المعدة مسبقا (الاختبارات الإلكترونية، التقييمات البديلة، الامتحان عن بعد ،عمل مهمات...).
2. تدريب القيادات الأكاديمية على إدارة الأزمات التعليمية، وليس فقط التنظير فيها.
3. إشراك الطلبة في صناعة القرار عبر الكتل واللجان الطلابية الرسمية، لأنهم أصحاب الشأن.
4. تفعيل دور وحدات الإرشاد النفسي الجامعي لمتابعة تأثيرات هذه القرارات الكارثية.
5. إجراء دراسة تقييمية لأثر التأجيل المتكرر على الأداء الأكاديمي والنفسي للطلبة.
خاتمة: حذارِ من اغتيال العقل الفلسطيني
إذا كنّا نُخرّب نفسية الطالب ونحن في موقع المربي، فبئس المهنة وبئس الرسالة. الطالب الفلسطيني لا يطلب معجزة، بل استقرارًا يُمكّنه من الحلم، لا قلقًا يشله عن التفكير. فمن لم يتقن فن احترام طلابه، لا يستحق أن يدرسهم .
أخوكم: ياسر أبوبكر
طالب دكتوراة تعليم وتعلم
جامعة النجاح الوطنية