صرخة من القاعدة في زمن الصمت والأنتظار ، أقاليم "فتح" تدق جدران الخزان .

صرخة من القاعدة في زمن الصمت والأنتظار ، أقاليم "فتح" تدق جدران الخزان .
* د . مروان إميل طوباسي .
في زمن تتكاثف فيه غيوم العتمة على الوطن ، وحيث المحرقة والمجازر تفتك بأجساد أطفالنا وشيوخنا في غزة ، وتُستباح الضفة الغربية بالموت البطيئ والضم والأستيطان والأعتقال والقتل والتنكيل الإجرامي بأسرآنا الأبطال وتهجير مخيماتنا محطات العودة ، والقدس بالتطهير العرقي والتهويد ،
ومصادقة الكابينيت السياسي – الأمني لدولة الأحتلال الإسرائيلي يوم أمس ، على قرار يقضي بتسجيل حقوق ملكية أراضي في المناطق 'ج ' في الضفة لأول مرة منذ العام ١٩٦٧ وما يحمله من مخاطر على الارض ، جاءت صرخة أقاليم حركة "فتح" في الضفة الغربية كصوت وضؤ في آخر النفق ، وكبيان مفاجئ يحمل بعداً سياسيا وتنظيميا طال انتظاره ، لا من حيث جرأته فحسب ، بل لكونه صدر عن جسم تنظيمي إعتقد البعض أنه فُكك أو صودر دوره في متاهات التكلس والأنقسام والتشتت وحالة الأغتراب ، ورغم تشكك عدد من الأخوه بحقيقة مصدره الا انه صورة يعبر عن حالة عمق الأزمة التنظيمية .
البيان ، بلغة واضحة ومباشرة ، أعاد الإعتبار لمفاهيم كانت تسود الخطاب الرسمي للحركة منذ انطلاقتها ، من وحدة وطنية وبرنامج سياسي جامع ومقاوم واستراتيحية حماية شعبنا خاصة في قطاع غزة اليوم وفق رؤية عقلانية وأرادة سياسية ، إلى إنهاء معاناة الأسرى والمبعدين ، ومساءلة الأداء المؤسسي للسلطة ومراجعة اداء العمل الدبلوماسي الفلسطيني الخارجي وتصويب هياكل سفاراتنا وفق الكفائة والحاجة والمصلحة الوطنية ، وصولاً إلى نقد علني لمظاهر المحاصصة أو إستغلال المواقع الوظيفية بشكل غير مشروع ، وإزدواجية المهمات ، وغياب الكفاءة عن مواقع القرار بمؤسساتنا ، والى ضرورات توسيع افاق العمل المشترك مع القوى الشعبية الدولية المتضامنة معنا ومع الدول الصديقة والتحالفات الناشئة . حيث كانت "فتح" من حَمل لواء حركات التحرر العالمي وهي من يجب ان تكون اليوم مع الحركات الأممية لمناهضة العنصرية والأستعمار . اضافة الى ضرورة متابعة الأجراءات القضائية لقرارات المحاكم الدولية والأراء الأستشارية لها من اجل التعاون على تنفيذها والبناء السياسي عليها ومواجهة الضغوطات المعاكسة التي تهدف لأجهاضها .
إنها من المرات المحدودة منذ سنوات ، ربما منذ اغتيال الرئيس المؤسس ياسر عرفات ، التي يُسمع فيها صوت أطر حركية صريح يطالب بعقد المؤتمر العام ، وملئ الشواغر في اللجنة المركزية ، ووقف العبث في ملفات الشهداء والأسرى والقدس، وإعادة الإعتبار للتنظيم كأداة نضال وطني تحرري ، لا كمحمية مغلقة .
هذا البيان لا يجب أن يُقرأ بمعزل عن سياقه ، فقد سبقه مسودة بيان غير رسمي لأعضاء من المجلس الثوري قبل أسابيع ، حمل مضمونا مماثلاً . كما بدأت أصوات تتشكل داخل القواعد التنظيمية والأتحادات الشعبية ، تخرج من تحت الرماد ، معلنة أن زمن الصمت بدأ ينكسر أمام الخطر الداهم الذي يهدد المشروع الوطني التحرري ودور "فتح" فيه .
وفي هذا السياق ، تبرز أهمية تفعيل الأطر التمثيلية للحركة وهيئاتها ، ومنها المجلس الأستشاري "لفتح"، الذي يضم كوادر ذات خبرة سياسية وتنظيمية وعسكرية عميقة . وجود هذا المجلس ليس ترفاً تنظيمياً ، بل ضرورة حركية ووطنية ، لتفعيل نقاش مسؤول بين أجيال الحركة ، وتعزيز صلة الماضي بالحاضر ، والمساعدة في وضوح الهوية وتصويب البوصلة السياسية والتنظيمية في لحظة مفصلية من تاريخ شعبنا ، من خلال ضرورات التواصل مع هيئات الحركة المختلفة من المجلس الثوري واللجنة المركزية ، ومع مكونات ومركبات الحركة الوطنية ومجتمعنا الفلسطيني .
إن أستنهاض حركة "فتح" اليوم ليس خياراً داخليا فحسب ، بل واجب وطني لا يحتمل التأجيل يتحمل الجميع مسوؤليته . فحركة "فتح" ، التي يفترض بدورها ان تشكل العمود الفقري للمشروع الوطني التحرري الفلسطيني ، تواجه خطر التآكل والتهميش في ظل تداعيات الأنقسام السياسي والمجتمعي ، وتوحش الأحتلال في محاولات تنفيذ مشروع الحركة الصهيونية "إسرائيل الكبرى" ، وتراجع دور منظمة التحرير امام تسارع المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية من جهة ، أو أمام ضغوطات تستهدف فتح واشتراطات من جهة أخرى تهدد سريان مبدأ القرار الوطني المستقل ، أو من خلال شروع الولايات المتحدة وقوى إقليمية بحوار ومفاوضات مع أطراف مختلفة .
اليوم ، يبدأ الأستنهاض من خلال الإستفادة من مظاهر أفول الهيمنة الأمريكية بالعالم وتخبط سياساتها الخارجية وتراجع أحادية القطب امام بدايات نشؤ النظام الدولي متعدد الأقطاب ، وتفاقم الأزمة البنيوية في دولة الأحتلال . وإعادة الإعتبار للديمقراطية الداخلية ووحدة التنظيم السياسي ، وتنظيم مؤتمر حركي عام ثامن يتيح تجديد الشرعيات ، وبمراجعة البرنامج السياسي وتفعيل أدوات النضال الشعبي ، وإعادة "فتح" إلى موقعها الطبيعي كقائدة لحركة تحرر وطني لا كإدارة محلية مرتهنة أو كحزب حاكم لسلطة تحت حراب الأحتلال أو بدون سلطة حقيقية كما وصفها الأخ الرئيس أبو مازن .
ولا بد أن يترافق ذلك كله بتجسيد الشراكة الحقيقية مع القوى الوطنية الشريكة في مسيرة الكفاح الوطني الطويل والبدء بالحوار الوطني فورا ، وأنفتاح على الحراكات الشبابية ، والمجتمع المدني ، والشتات الفلسطيني ، لإعادة بناء الثقة بين "فتح" وجماهيرها ومع كل جماهير شعبنا ، واستعادة الدور الريادي والقيادي ، لا من موقع السلطة بل من قلب معركة التحرر الوطني من اجل الخروج من ازمة نظامنا السياسي أيضاً .
إلا اننا لا نريد أن نغرق في الأوهام السريعة ، فالبيان ليس عصا سحرية ، والبيئة السياسية ما زالت خانقة . لكن ، في زمن الإنهاك الشعبي ، واتساع فجوة الثقة وتكلس الشرعيات ، فإن صدور هذا الموقف من القاعدة التنظيمية للحركة يكتسب أهمية أستثنائية يفترض استدامتها وتطويرها للمصلحة الوطنية العليا . إنه تذكير بأن النبض ما زال حياً ، وأن "فتح" التي كان الناس ينتظرون كلمتها ، قد تعود من حيث لا يحتسب أحد .
ما صدر عن أقاليم الضفة ليس مجرد بيان ، بل تحدٍ للواقع المأزوم ، ومحاولة جريئة للإمساك بالخيط الوطني الجامع . وإذا بقيت قيادة حركة "فتح" والتنظيم أسيرة العجز أو محكومة لمراكز النفوذ والضغوطات الخارجية ، فإن القاعدة قد بدأت تقول كفى .
قد لا يكون هذا البيان ثورة ، لكنه شرارة يمكن البناء عليها ، إن وَجدت الدعم من النخب الميدانية والسياسية التي تشبه شعبنا ومن رحمه ، ومن جماهير فتح المهمشة ، ومن شركاء الكفاح من الفصائل الوطنية والقوى الحية في المجتمع الفلسطيني . فالأمل لا يولد من المؤتمرات وحدها ، بل من إرادة جمعية تُعيد "فتح" إلى قلب المشهد وفق أرادة ورؤية سياسية واضحة تقترن ببرنامج وأدوات التحرر الوطني الديمقراطي ، وتعيد الإعتبار لمنظمة التحرير كإطار نضالي موحد وكجبهة وطنية واسعة لإنهاء الأحتلال ، تصون القرار الوطني المستقل والعدالة الأجتماعية وفصل السلطات بالواقع القائم بالسلطة الوطنية ، الى جانب ضرورات ملحة ، أولها أحياء وتصويب عضوية المجلس الوطني الفلسطيني لحين التمكن من أجراء الأنتخابات العامة والشاملة كحق اساسي لكل فلسطيني ، وتفعيل الدور الرقابي والتشريعي للمجلس المركزي وفق القرارات السابقة بالخصوص و تنفيذ الأخرى منها ، وصولاً الى إنهاء الأحتلال اولاً وتحقيق حقوق شعبنا الفلسطيني الغير قابلة للتصرف ، بما في ذلك العودة وتقرير المصير وبناء دولة المواطنة المدنية والحريات والديمقراطية والتقدم .
في هذا الخصوص ، قد يُثار تساؤل مشروع من عدد من كوادر الحركة ، حول غياب التوقيع الصريح على البيان، وما إذا كان يعكس صراعا بين مراكز النفوذ داخل "فتح" . ورغم وجاهة هذا التساؤل ، فإن الأهم يبقى في محتوى البيان ذاته ، الذي يكشف عن عمق الأزمة التنظيمية وحالة الصراع العبثي ، ويُعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول مستقبل الحركة ومشروعها التحرري . فالصرخة ، حتى لو خرجت من رحم التناقضات ، تبقى صرخة حقّ تدق جدران الخزان في زمن متسارع لا يعرف السكون .