ما العمل في ظل أجواء الفقدان

أبريل 23, 2024 - 09:14
ما العمل في ظل أجواء الفقدان

يشهد المجتمع البشري قاطبة، ومجتمعنا الفلسطيني خاصة، موجة من الاقتتال والعنف الوحشي الذي لا مثيل له الا في العصور الوسطى وما قبل عصر النهضة الصناعية.


لعل من أبرز أشكال العنف هذا: القتل ، التشريد والاقتلاع، وتدمير الممتلكات بما المؤسسات الخدماتية، كالجامعات والمدارس والمستشفيات ودور العبادة ، اضافة الى مصادرة الحريات الشخصيّة والمتمثلة في حرية التنقل وحريتي التفكير والتعبير.


ينجم عن كل هذا، صدمات نفسيّة لدى جميع البشر
، بغض النظر عن العمر أو الجنس، طبعا بشكل متفاوت، بناء على عوامل عدّة منها التجارب السابقة ، وقوة الايمان وصلابة العقيدة الدينية لدى الشخص والثقافة السائدة، لكن الجميع سيكوا ضحايا لاّثار ما بعد الصدمة مما يقود الى اضطرابات سيكو - سلوكية، ناهيك عن ما يصاحب ذلك من أعراض مثل الانهيار العاطفي، ودوام التوتر والقلق النفسي ..الخ.


في ظل مثل هذه الأوضاع الحزينة والمستمرة منذ عقود خلت، ما الذي يمكن عمله للتخفيف من حدة اّثار ما بعد الصدمات النفسية هذه، ان لم يكن الاشفاء منها ولو بشكل نسبي ؟!


أعتقد أن أصعب حالة من الحالات المذكورة أعلاه هي حالة الفقدان ، فقدان أحد الوالدين أو أحد أفراد العائلة أو العائلة جميعها، مع بقاء الأطفال الصغار الايتام أو الوالدين بلا أحد من أفراد العائلة. وكم شهدنا صورا لاّباء /أمهات يحملون فلذات الأكباد لدفنهم بالحد الأدنى مما يليق بالانسان الذي كرّمه الخالق، والعكس تماما، رأينا وما زلنا نرى أبناء وبنات يحملن جثامين الوالدين / أو افرادا من العائلة لنفس الغاية .


ومما يزيد الطين بلّة تواصل الفواجع ،اذ ما انتهى المجتمع البشري من جوائح تركت آثارا ملموسة على سلوكياته، كالطاعون والسل والحصبة ومؤخرا جائحة كورونا، تبع كل هذه الحروب والاجتياحات التي هي من صنع البشر وأنانيتهم وجهلهم .


عند محاولة وصف آليات يمكن اتباعها لدى التعامل مع حالة الفقدان ، يتوجب الأخذ بعين الاعتبار الفئة المستهدفة وخصوصيتها ، كون الأمر يختلف من مرحلة الطفولة المبكّرة ومرحلة النضج الجسماني والعاطفي والعقلي .


لطبيعة حالة الفقدان (فجأة، بشكل جماعي أو بعد مرض عضال أو الاصابة بجروح لا يمكن الاشفاء منها) وكذلك العامل الذي أدّى الى الفقدان ، دور هام في تحديد أشكال وردود الفعل الناجمة عن الفقدان . لعلّ الوصمة الاجتماعية لحالات الفقدان لها دور أيضا، فمثلا تختلف ردود الفعل في حالة فقدان بسبب الانتحار أو الدفاع عن الوطن ، أو المرض المزمن، وذلك بموجب المعايير الدينية والثقافية السائدة ، ففي حالة الانتحار تكون وصمة سلبيّة جدا، وفي الحالة الثانية الدفاع عن الوطن تكون بمثابة شرف نيل الشهادة والتي لها مفهوما واّثارا ايجابية مشرّفة ، وفي الحالة الثالثة يكون لا مفرّ من التسليم بقضاء الله وقدره.


مهما كانت الأسباب، لا بد من الابتعاد عن تجاهل انعكاسات الفقدان سواء كانت سيكولوجية، اجتماعية أو اقتصادية ، بل يتوجب التوجه الى العلاج النفسي متعدد الأنماط والتسميات، وذلك اما بشكل شخصي أو جماعي، ومن قبل مهنيين مختصين في المجال ولديهم الدراية الكافية، بعيدا عن كافة أشكال الشعوذة أو الاستهتار بالحالة.


يسبق ويتبع العلاج السيكولوجي جلسات تقييم مهنية تدور حول أداء الشخص العاطفي والاجتماعي والمعرفي عن الفقدان وكل ما له علاقة به، وتحديد الأمور الصادمة المذكّرة بالفقدان، وطبيعة العلاقة بين الشخص الخاضع للعلاج والمفقود، وشكل استمرارية/ الانقطاع عن الأعمال اليومية التقليدية التي كان يقوم بها الشخص الذي يجري علاجه، مع ضرورة ترتيب جدول زمني يتفق عليه المعالج والشخص الذي تتم معالجته، على أن تتبع ذلك جلسات متابعة لملاحظة التطورات الحاصة نتيجة للعلاج أو الاستشارة ، كل ذلك في اطار مهني وبيئة آمنة.
تتمثل أولى خطوات العلاج وتقديم الاستشارة للشخص الساعي للعلاج ، في تقديم المعرفة الصحيحة وغير المتناقضة، بخصوص مفهوم الموت والفقدان من أجل المساهمة في تهدئة روع ومخاوف الشخص الخاضع للعلاج ، ويمكن هنا استخدام الرسم والألعاب ولا مانع من الاشتراك في تشييع الفقيد حسب عمر الشخص الخاضع للعلاج وبنيته الجسمانية. أيضا يمكن توظيف الرياضة الروحية والحث على ممارسة الشعائر الدينية والرياضة الجسمانية كاليوغا والسباحة والجري. كل هذا لتوفير فرص للتفريغ عن المشاعر اما بالكلمات أو الرسم أو الموسيقى، مع دوام الحرص على الابتعاد عن اللف والدوران أو ممارسة الصراخ والعنف أو الايحاء للشخص الخاضع للعلاج بأنه يتحمل شكلا من أشكال ومسببات الفقدان وذلك حتى لا يبقى تحت طائلة تأنيب الضمير .
وتبقى المعضلة الرئيسة هي عدم الوعي المجتمعي الكافي بأهمية والحاجة الماسّة للعلاج النفسي، وان بدأنا مؤخرا نلمس تناميا ايجابيا حيال ذلك.