البرد الذي يقطع العظم: أربعينية غزة بين جليد السماء وصبر الأرض

عيسى قراقع

ديسمبر 30, 2025 - 08:21
البرد الذي يقطع العظم: أربعينية غزة بين جليد السماء وصبر الأرض

عيسى قراقع

تحدد الموروثات الشعبية والعلمية بدقة فترة الأربعينية، التي تبدأ مع الانقلاب الشتوي وتستمر أربعين يوماً، كأشد فترات السنة برودة، حيث تسيطر الكتل الهوائية القطبية، وتكثر الصقيع والأمطار الغزيرة. لكن أربعينية غزة في شتاء 2025 ليست ظاهرة مناخية فحسب، بل هي محنة فلسفية واختبار وجودي لمن بقي على أرض القطاع، فبينما يحتمي الآخرون في بيوتهم من "البرد الذي يقطع العظم" كما يصفه المثل الشعبي، يواجه سكان غزة هذا البرد وهم بلا سقف يحميهم، حيث تحولت حياتهم إلى خيار مستحيل بين خيمة تغمرها السيول وجدار آيل للسقوط، وطائرات صهيونية تصطادهم  في كل وقت.

هل تتحالف السماء مع آلة الحرب في هذه الإبادة التي لم تتوقف؟ القنابل مع البرد والرياح ، فمن لم يقتل في الحرب تقتله الفيضانات والجوع وتغرقه المياه، مشاهد شعب يعيش في الطين والعواصف العاتيات القارسات، يشاهده العالم على الشاشات وهو جالس في دفء مواقد النار وبرودة الضمير واللامبالاة.

 


يختصر واقع غزة في قصة "هيام أبو نباح"، التي تسكن مع عائلتها في هيكل مبنى مدمر في خانيونس، بلا جدران تحميها من الربح القوية التي تضرب ارض القطاع، بينما تهدد الطوابق العلوية المنهارة بالسقوط فوق رؤوسهم. تخبرنا: "في اليوم الأول من العاصفة، كنا نسمع صوت الحجارة تتشقق فوق رؤوسنا... هذه ليست حياة". أما البديل فهو النزوح إلى الخيام، حيث غرقت 90% من مراكز الإيواء بسبب الأمطار، وصف هذا الخيار المستحيل بأنه "الجلوس بجانب البحر، في خيمة، تغمرها المياه". ولكن البحر يفيض فيجرف الاطفال والخيام والامتعة، أنه رعب الشتاء على أرض تحولت إلى أكبر سجن وأوسع مقبرة.

 

تتحول المنخفضات الجوية القطبية المتكررة إلى قوة مدمرة تضاعف آثار الحرب:

· انهيار المنازل غير الآمنة: تسببت الأمطار والرياح القوية التي تصل سرعتها إلى 80 كم/ساعة في انهيار عشرات المنازل، خاصة تلك المتضررة سابقاً من القصف، لا يملك الدفاع المدني آليات ثقيلة لإنقاذ المحتجزين تحت الأنقاض.
· تجريف الخيام: جرفت السيول أو اقتلعت الرياح أكثر من 27,000 خيمة، ليجد النازحون أنفسهم بلا مأوى مجدداً، حفاة مشردون تتساقط فوقهم لسعات البرد وزخات الرصاص.

البرد القارس، الموت الصامت، الرجفات والارتعاشات والصرخات، جثث تجمدت تحت المنازل المنهارة، ضحايا لا تسمع اصواتهم، الشتاء في هذه الأربعينية الصارمة تغسل وتدفن الناس بلا طقوس وشهود في مقابر من رمل وماء، وتجرفها إلى برك من لحم وحصى وخراب.


تحول البرد القارس (حيث تصل الحرارة إلى نحو 10 درجات مئوية) إلى قاتل صامت، خاصة بين الأطفال والرضع:

· توفي رضيع عمره شهر واحد، اسمه سعيد أسعد عابدين، نتيجة الانخفاض الشديد في درجة الحرارة، البرد تحول إلى نعش للصغار في جوف هذا الفضاء.
· أعلنت وزارة الصحة عن 13 حالة وفاة وصلت إلى المستشفيات بسبب البرد والمنخفضات الجوية.
· لقي 17 فلسطينياً مصرعهم منذ بدء المنخفضات في ديسمبر/كانون الأول، بينهم 4 أطفال.

يقول مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية، بمرارة: "أطفال قطاع غزة يجتمع عليهم القتل بالدبابات والبرد والمرض".

هل وصلت المساعدات والوقود والبطانيات؟ يتساءل أهل غزة المطاردين جوا وارضا، صيفا وشتاء، قتلا وذبحا، المحاصرين بين غضب السماء وبين رعب  نهاية عام ينفجر فيه الرعد، فيقتلع الانسانية من اضواء اعياد الميلاد.

في غزة أصبح البيت حلما، وبابور الكاز واللامبة الشاحبة، اين الشمس؟ هل اعتقلوها وارسلوها إلى جهة غاربة؟ ربما نحتاج إلى هدنة مع الطبيعة لوقف هذه الحرب، خارج موازين القوى وفيتو مجلس الامن.

في مواجهة هذا المشهد، يتحول الصمود الفلسطيني إلى فعل يومي يحتاج إلى فلسفة خاصة، الشاعر خالد جمعة يصوغ هذا التحدي الوجودي في قصيدته "غزة" قائلاً عنها: "المدينةُ التي لا يعرِفُها الناس إلا من قتلاها الدائمين يبحثون عن مكان فارغ للبكاء.

يا ليت نوح يمر من هنا، ينقذنا من الطوفان الشتوي و الطوفان الابادي، ويحمل ما تبقى منا في سفينته حتى يتوقف القصف والموت ونستعيد ارواحنا، منذ أكثر من عامين لم يصل أحد سوى الصواريخ اللافحات والراجمات والمتفجرات النازلات الصاعدات  الماحقات.

أربعينية غزة ليست مجرد منخفض جوي ثالث أو رابع، بل هي جدارية إنسانية ترسمها الأمطار على خيام مشبوكة بحبال الياس، فيها يتحول البرد من ظاهرة مناخية إلى تجربة وجودية في العيش على الحافة، حيث يختبر الفلسطيني أقصى درجات الضعف والقوة معا، يتناقل النازحون النصائح البدائية لتثبيت الخيام بعيدا عن السيول، لسان حالهم يقول:
سنبقى هنا رغم هذه الكارثة، لا احد يقتلعنا حتى لو تبخرت أجسامنا.