الصورة الذهنية عن أصدقائنا بين الواقع والمنصات الرقمية: من نعرف فعلًا ومن تصنعه الخوارزميات؟

صدقي أبو ضهير : باحث ومستشار بالإعلام والتسويق الرقمي

ديسمبر 28, 2025 - 08:35
الصورة الذهنية عن أصدقائنا بين الواقع والمنصات الرقمية: من نعرف فعلًا ومن تصنعه الخوارزميات؟

صدقي أبو ضهير : باحث ومستشار بالإعلام والتسويق الرقمي

لم تعد الصورة الذهنية التي نحملها عن أصدقائنا اليوم نتاج التجربة الواقعية وحدها، بل أصبحت في جزء كبير منها انعكاسًا مباشرًا لنشاطهم على المنصات الرقمية. في زمن السوشيال ميديا، يتقدّم "ما يُعرض" أحيانًا على "ما هو موجود"، وتتحول العلاقة الإنسانية من خبرة معيشة إلى انطباع رقمي، تصوغه الخوارزميات بقدر ما يصوغه الإنسان نفسه. هذا التحول لا يطال الأفراد فقط، بل يمتد ليؤثر في العائلة والمجتمع والسلوك العام، وينعكس بوضوح داخل المدرسة والجامعة وبيئة العمل.

الصورة الذهنية، وفق علم النفس الاجتماعي، هي تراكم انطباعات ذهنية تتشكل عبر التفاعل والتجربة والتكرار. لكن في البيئة الرقمية، دخل عامل جديد بقوة، وهو الانتقائية المتعمدة في عرض الذات. تشير دراسة صادرة عن جامعة Stanford عام 2023 إلى أن نحو 64% من الشباب تتشكل لديهم الانطباعات الأولى عن الآخرين اعتمادًا على حساباتهم الرقمية قبل أي تفاعل واقعي. هذا الرقم وحده كافٍ ليدل على حجم التحول في طريقة تكوين الأحكام الاجتماعية، حيث لم يعد اللقاء المباشر هو المصدر الأول للمعرفة، بل المنشور، والصورة، والتعليق، وعدد التفاعلات.

المنصات الرقمية لا تعكس الواقع كما هو، بل تقدّم نسخة مُفلترة منه. تقرير Digital 2024 يبيّن أن 78% من المستخدمين ينشرون الجوانب الإيجابية فقط من حياتهم، بينما يعترف أكثر من نصفهم بأنهم يتعمدون إخفاء أو حذف محتوى لا ينسجم مع الصورة التي يريدون ترسيخها. هنا تتدخل الخوارزميات، التي تعيد تضخيم هذا المحتوى "الأكثر جاذبية"، فتخلق انطباعًا عامًا قد يكون بعيدًا عن الواقع الفعلي للشخص. بالنتيجة، نحن لا نحكم على الإنسان، بل على نسخته الرقمية المنتقاة، أو كما يُقال بالعامية الفلسطينية: بنصير نعرف الناس من بوست، مش من معاشرة.

على مستوى الفرد، يؤدي هذا الواقع إلى إعادة تشكيل الهوية. تظهر دراسات الجمعية الأمريكية لعلم النفس أن 41% من الشباب يغيرون آراءهم المعلنة أو سلوكهم الرقمي حتى لا تتضرر صورتهم أمام الجمهور، بينما يعاني 36% من توتر اجتماعي مرتبط بالخوف من الحكم عليهم بناءً على حضورهم الرقمي. هذه الأرقام تكشف عن حالة ازدواجية واضحة، حيث يعيش الفرد بين ذات واقعية وذات رقمية، وقد يضطر أحيانًا لتعديل سلوكه الحقيقي ليتماشى مع الصورة التي بناها على المنصات، لا مع قناعاته الفعلية.

هذا التوتر لا يبقى فرديًا، بل ينتقل إلى داخل العائلة. في كثير من البيوت، بات الأب أو الأم يكوّنون صورة عن أبنائهم من خلال ما يُنشر عنهم أو لهم، لا مما يعيشونه معهم يوميًا. في المجتمعات العربية والفلسطينية تحديدًا، حيث للسمعة الاجتماعية وزن كبير، يتحول الحساب الرقمي إلى بطاقة تعريف اجتماعية، وقد يصبح مصدر ضغط أو خلاف، خصوصًا عندما تتباين الصورة الرقمية مع الواقع الأسري. وهون المشكلة، لأن الحكم يصبح مبنيًا على العرض لا على المعرفة الحقيقية.

على المستوى المجتمعي، تتراكم هذه الصور الذهنية الرقمية لتصنع سلوكًا عامًا جديدًا. المجتمع يبدأ بإعادة إنتاج ما يراه "مقبولًا" أو "ناجحًا" رقميًا، فتنتشر أنماط سلوك وأفكار لأنها رائجة، لا لأنها صحيحة أو صحية. هذا ينعكس بوضوح في المدرسة والجامعة، حيث يتأثر الطلبة بالترند أكثر من القيمة، وبالصورة أكثر من الجوهر. في بيئة العمل، لم تعد الكفاءة وحدها كافية، إذ يشير تقرير LinkedIn لعام 2024 إلى أن 57% من مسؤولي التوظيف يراجعون الحسابات الرقمية للمتقدمين قبل اتخاذ قرار التعيين، ما يعني أن الصورة الذهنية الرقمية أصبحت عاملًا مؤثرًا في المسار المهني، سواء كانت دقيقة أم لا.

من زاوية تفكير منظومي، يمكن القول إن المنصات الرقمية تعيد تشكيل الفرد، والفرد يؤثر في العائلة، والعائلة تعيد إنتاج القيم داخل المجتمع، ثم تعود هذه القيم لتُضخ عبر المنصات بشكل أوسع، في دائرة متكاملة إن لم تُكسر بالوعي النقدي. المشكلة ليست في وجود المنصات، بل في التسليم المطلق بأن ما نراه عليها هو الحقيقة الكاملة. الواقع أن الصورة الذهنية الرقمية ليست كذبًا صريحًا، ولا حقيقة كاملة، بل بناء انتقائي يخضع لمنطق العرض والخوارزمية.

الخلاصة أن معرفة أصدقائنا اليوم تتطلب وعيًا مضاعفًا، يميّز بين الإنسان ومحتواه، وبين الواقع وما تصنعه المنصات. المطلوب ليس الانسحاب من الفضاء الرقمي، بل إعادة التوازن في الحكم والفهم، وعدم اختزال الإنسان في حسابه. وبالعامية الفلسطينية، الفكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: مش كل واحد مبين قوي ومثالي عالسوشيال ميديا هو هيك بالحقيقة، واللي بعرفك بجد هو اللي شافك لما ما كان في كاميرا ولا لايكات.