دولة بلا حرب: لماذا يخشى اليمين الإسرائيلي السلطة الفلسطينية أكثر مما يخشى الفوضى؟
د. إبراهيم نعيرات
د. إبراهيم نعيرات
في السردية السياسية الإسرائيلية، وخصوصًا لدى اليمين، يُقدَّم الصراع مع الفلسطينيين على أنه صراع أمني مع كيان عنيف أو فوضوي لا يمكن التعايش معه. غير أن قراءة أعمق للسياسات الإسرائيلية تكشف مفارقة أساسية: الخطر الحقيقي الذي يواجه اليمين الإسرائيلي لا يتمثل في الفلسطيني المسلح بقدر ما يتمثل في الفلسطيني المنظم، الهادئ، والقادر على العمل ضمن قواعد السياسة الدولية.
فالكيان الذي لا يلوّح بالسلاح بل بالشرعية، ولا يهدد بالصواريخ بل بالملفات القانونية والاعترافات الدولية، يمثل تهديدًا استراتيجيًا من نوع مختلف. وجود سلطة فلسطينية “سلمية”، حتى بحدها الأدنى، قادرة على إدارة شؤون السكان وبناء مؤسسات، يُبقي فكرة الدولة الفلسطينية حيّة وقابلة للتطور التدريجي عبر القانون الدولي والقرارات الأممية. هذا المسار لا يحتاج إلى حرب، ولا يفترض هزيمة عسكرية لإسرائيل، وهو ما يتناقض جذريًا مع تصور اليمين لمستقبل “أرض إسرائيل الكاملة”.
من هذا المنطلق، لا يعمل اليمين الإسرائيلي على إسقاط السلطة الفلسطينية بالكامل، ولا يسمح لها في الوقت ذاته بالنجاح. السياسة المعتمدة هي الإبقاء عليها في حالة وسطية هشة: موجودة إداريًا، غائبة سياديًا؛ مسؤولة عن السكان، لكنها بلا سيطرة حقيقية على الأرض أو الموارد. في هذه المنطقة الرمادية، تتحول السلطة من مشروع وطني انتقالي إلى أداة إدارة سكانية، بينما تُفرغ السياسة من مضمونها وتُعلَّق أي إمكانية فعلية للحل.
هذا الفراغ المُدار يتيح لإسرائيل تسريع مشروعها الحقيقي على الأرض: توسيع الاستيطان، وتقطيع الجغرافيا، وفرض وقائع ديموغرافية تجعل أي حديث مستقبلي عن دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة أمرًا شبه مستحيل. ليست هذه سياسة حل للصراع، بل سياسة إدارة طويلة الأمد له، تقوم على تجميد المسار السياسي مقابل تسريع السيطرة الميدانية، وتحويل فكرة الحكم الذاتي إلى إدارة بلدية موسعة بلا أفق وطني.
في هذه المعادلة، تلعب غزة دورًا وظيفيًا بالغ الأهمية. فهي تُقدَّم في الخطاب الإسرائيلي للعالم كنموذج تحذيري: هكذا يكون الحال عندما يُترك الفلسطينيون ليحكموا أنفسهم. الحصار، والدمار، والحروب المتكررة تُستخدم لترسيخ سردية مفادها أن أي سيادة فلسطينية ستقود حتمًا إلى العنف وعدم الاستقرار. وفي المقابل، لا يُسمح للضفة الغربية بأن تقدم نموذجًا معاكسًا: كيانًا هادئًا، منظمًا، وقابلًا للحياة. تُحاصر غزة عسكريًا، وتُهندَس الضفة سياسيًا، فلا تُترك الأولى لتعيش، ولا تُسمح للثانية أن تصبح دولة.
لكن هذا الاستخدام الوظيفي لغزة لا يعمل بالاتجاه نفسه على المدى البعيد. فمع تكرار الحروب وانسداد الأفق، لم يعد النموذج الغزّي يُستخدم فقط لتخويف العالم، بل أصبح أيضًا مادة مراجعة داخل المجتمع الفلسطيني نفسه. ومع الزمن، بدأ قطاع متزايد من الفلسطينيين يعيد التفكير في شكل الكيان السياسي الممكن، وفي كلفة الخيارات المختلفة.
في هذا السياق، أخذ نموذج السلطة الفلسطينية “المسالمة”، رغم كل ضعفه وإخفاقاته، حيزًا متزايدًا في تفكير الناس في فلسطين. ليس بوصفه نموذجًا مثاليًا أو نهائيًا، بل بوصفه نقيضًا لحالة الدمار الدائم والحرب المفتوحة. المقارنة اليومية بين واقع غزة المحاصَرة المنهكة، وواقع الضفة المُدارة نسبيًا، دفعت كثيرين إلى التساؤل عن قيمة الاستقرار، حتى لو كان منقوصًا، وعن إمكانية تطويره سياسيًا بدل الارتهان المستمر لمنطق المواجهة المفتوحة.
وهنا تحديدًا يكمن القلق الحقيقي لليمين الإسرائيلي. فخطر السلطة الفلسطينية لا يقتصر على اعتراف دولي أو مؤسسات قائمة، بل في احتمال أن تتحول، مع الزمن، إلى فكرة مقبولة شعبيًا كنقطة انطلاق لبناء دولة بلا حرب. دولة تنمو ببطء، عبر الزمن والشرعية، لا عبر المعركة الفاصلة. هذا النوع من الدول هو ما لا يعرف اليمين كيف يتعامل معه.
بهذا المعنى، يمكن القول إن ما حاول التطرف الإسرائيلي والفلسطيني بناءه خلال السنوات الماضية بدأ ينقلب على أصحابه. فالتطرف الإسرائيلي الذي راهن على تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني عبر الحصار والانقسام، أسهم من حيث لا يريد في إبقاء فكرة الدولة حيّة، ولكن بصيغة أكثر هدوءًا وقابلية للتسويق الدولي. وفي المقابل، فإن التطرف الفلسطيني الذي راهن على فرض المعادلة بالقوة العسكرية قدّم، مع الزمن، نموذجًا أنهك المجتمع أكثر مما أنهك الخصم، ودفع قطاعات واسعة إلى البحث عن بدائل أقل كلفة وأكثر قابلية للحياة.
النتيجة التي تتكشف اليوم لا تخدم الأيديولوجيات المتطرفة بقدر ما تفضح حدودها. فإدارة الصراع بالقوة أو بالهندسة القسرية للواقع لم تُنهِ القضية الفلسطينية، بل أعادت طرحها بأدوات مختلفة: الوعي الشعبي، والشرعية الدولية، والزمن الطويل. وفي هذا المسار، قد تكون الدولة الفلسطينية التي يخشاها اليمين الإسرائيلي أكثر هي تلك التي تولد من الصبر، لا من الحرب.





