الاحتلال والحصار .. كيف صُنِعَت أكبر سوق سوداء تحت عين الاحتلال وشراكة المستفيدين؟
مروان إميل طوباسي
لم يكن البيان الصادر عن غرفة تجارة وصناعة وزراعة غزة، والكشف عن مئات ملايين الدولارات التي دُفعت كـ"تنسيقات غير قانونية" صادما فقط بل قرع الجرس. لقد شكل ذلك فضيحة سياسية وأخلاقية كاملة تكشف طبيعة المرحلة التي عاشها القطاع خلال الحرب وما بعدها، اقتصاد حرب مُحكم جرى تصميمه بالاستفادة من الإبادة الجماعية، وإدارته ليحوّل الحصار إلى مورد ربح، والمعاناة إلى فرصة استثمار، والجوع إلى تجارة لأمراء الحرب.
فرغم فرص انتهاء عدوان الإبادة ودخول وقف إطلاق النار الهش حيز التنفيذ رغم استمرار الاحتلال بأعمال القصف والقتل، أبقت إسرائيل على معابر غزة تحت منظومة معقدة من الإجراءات والقيود غير المعلنة. لم يكن الهدف فقط التحكم في حركة البضائع، بل إدارة منظومة ابتزاز اقتصادي تتقاطع فيها مصالح عسكرية وتجارية وأمنية، وتُنتج في النهاية سوقا سوداء كاملة مع شبكات محلية متعددة من غزة والضفة ومصر والأردن ترتبط مباشرة أو عبر وسطاء بمنظومة الاحتلال بالشراكة مع جهات أخرى لم يفصح عنها بيان رئيس الغرفة التجارية في غزة.
وقال البيان، إن هنالك شهادات من التجار تؤكد أن دخول البضائع لم يكن يتم عبر القنوات الرسمية، بل عبر رسوم باهظة تُدفع لجهات غير معروفة، تراوحت بين نصف مليون ومليون شيكل للشاحنة الواحدة. أما السلع المصنفة "استخداما مزدوجا"، من قطع الغيار إلى الأنظمة الكهربائية والطاقة الشمسية، فلم يكن لها طريق للقطاع سوى عبر مبالغ ضخمة دفعت خارج كل إطار قانوني أو إداري.
الرقم الإجمالي الذي تحدث عنه البيان صادم، أكثر من ٨٠٥ ملايين دولار حتى آذار الماضي ٢٠٢٥ فقط، وصولاً إلى الرقم الذي كشف عنه لاحقا رئيس غرفة تجارة وزراعة غزة أمس الأول، والذي تجاوز ٩٧٦ مليون دولار بحسب إفادته حتى هذا الشهر. نحن إذن أمام ما يقارب مليار دولار تشكل العمود الفقري لسوق سوداء غذت طبقة جديدة من أمراء الحرب ومراكز النفوذ، فيما كان الناس يدفعون مبالغ خيالية طائلة مقابل اي سلعة يريدون شراءها في غزة.
هذه الجريمة لا تقاس فقط بحجم الأموال التي جمعتها تلك الاطراف، بل بحجم ما سببته من انهيار لكرامة الناس وحقهم في الغذاء والبقاء. إنها جريمة مركبة، الاحتلال الذي يفرض القتل والحصار، والجهات التي تدير الابتزاز والفساد، والشبكات التي راكمت الأرباح على حساب الدم والجوع.
لكن الأخطر أن هذا الواقع جرى تقديمه دوليا باعتباره "إجراءات أمنية" أو "تنظيما للمرور"، بينما هو في الحقيقة نظام اقتصادي غير شرعي، يناقض القانون الدولي، وينسف جوهر بروتوكولات التهدئة واتفاقات الإغاثة الإنسانية. لقد تمّ الاستثمار في المعاناة بدلًا من إنهائها، وباتت الحركة التجارية رهينة لثلاثة أطراف هم:
بائع يتحكم بالمعبر، ووسيط ينفذ المهمة، ومستهلك مسحوق يدفع حياته ثمنا.
إن ما جرى ليس تفصيلاً عابرا في زمن الاحتلال والحصار وعدوان الابادة، بل نموذج متكامل لاقتصاد السيطرة الاستعمارية التي عادةً ما تُنشئ بيئتها متعاونين من أدوات محلية فلسطينية وعربية دون ضمير. حيث يتحول الحصار او العدوان وكذلك اجراءات الاحتلال على المعابر إلى بيئة فساد منظم، وتتداخل المصالح بين قوة الاحتلال وأصحاب النفوذ المحليين، ويتحول المواطن العادي إلى الحلقة الأضعف في سلسلة نهب ممنهج.
المطلوب اليوم ليس فقط كشف الأرقام، بل كشف الأسماء والشبكات وآليات التوريد، والمطالبة بتحقيق منظمات حقوقية دولية مستقلة، وإجراء تحقيق ومراجعة فلسطينية شجاعة من جهات الاختصاص بالأجهزة الأمنية في مكافحة الجرائم الاقتصادية تُنهي هذا الشكل من الإدارة الذي دمر حياة الناس وأعاق تطور مصالحها التجارية، احيانا بحكم بعض الشبكات الاحتكارية ( دون قصد الوكلاء التجاريين الذين يعانون هم انفسهم من اساليب القرصنة وتهريب البضائع والأبتزاز أحياناً أخرى ) بشكل عام لبعض السلع والخدمات والتي بجزء منها يُفترض توفرها للمواطن دون رسوم حتى بالضفة الغربية، الأمر أيضا الذي رفع بشكل مبالغ فيه اسعار البضائع حتى في أسواق الضفة الغربية التي لا تخضع للرقابة المفترضة وغياب القوانين الناظمة لذلك، وفي غياب حماية مستهلك حقيقية وذات صلاحيات. أن اجراءات الاحتلال والحصار ليس فقط حدوداً تُغلق، بل شبكة مصالح تُفتح احياناً لتُشكل مصالح مشتركة في بعض الأحيان، حتى في مناهضة وأعاقة أشكال المقاطعة الإقتصادية المفترضة لدولة الاحتلال وبضائعها بشكل عام، بدون مراقبتها ودون كسرها. الأمر الذي يستوجب ضرورة تقديم هؤلاء الى العدالة حتى يأخذ القانون مجراه واتخاذ العقوبات بشفافية ضد من تثبت ادانتهم كائناً من كان. دون ذلك سيبقى اقتصاد غزة رهينة واقتصاد الضفة تابع وخاضع بل ورهينة أحيانا في حدود ما لمصالح تلك الفئات والشبكات، وستبقى الكارثة الإنسانية تتكرر بأشكال جديدة من الغلاء الفاحش للبضائع والخدمات وارتفاع الأسعار غير المبرر احياناً في ظل البطالة وتدني مستوى الدخل مقارنة مع دول أخرى تستورد من ذات المصدر وتخضع لنفس نسب الضرائب، ومن إمتهان كرامة ابناء شعبنا والخضوع لإملاءات الاحتلال او مصالح المستفيدين من أمراء الحروب والاحتلال وتجارها.



