المواقع العامة مسؤولية لا انتقائية: قراءة في شرط الالتزام بمنظمة التحرير
د. ربحي دولة
جاء الشرط الوارد في قانون انتخابات الهيئات المحلية الجديد، القاضي بالتزام المترشحين بمرجعية منظمة التحرير الفلسطينية وما تندرج تحته من اتفاقات والتزامات، ليضع العملية الانتخابية في سياق سياسي أوسع من مجرد التنافس على مواقع بلدية. فهذا الشرط لا ينفصل عن الحاجة إلى تنظيم الحياة السياسية وضبطها ضمن إطار وطني موحد، يضمن أنّ من يتولى موقعاً عاماً يكون جزءاً من المنظومة السياسية الفلسطينية، لا جسماً موازياً يعمل خارجها أو ينازعها شرعيتها. فالعمل العام، حتى على المستوى المحلي، ليس مساحة فوضوية مفتوحة، بل مجال يستند إلى مرجعية سياسية وقانونية شكلتها منظمة التحرير عبر تاريخها.
ومع ذلك، فإن القانون لم يذكر صراحةً إعلان وثيقة الاستقلال ولا الميثاق الوطني، رغم أنهما يشكلان أساس الهوية الوطنية والشرعية السياسية لمنظمة التحرير نفسها. ولو أُضيفت الإشارة إليهما في القانون، لكان النص أكثر وضوحاً وشمولاً، وأكثر حصانةً أمام التأويل والجدل. فوثيقة الاستقلال هي التعبير السياسي والأخلاقي عن الدولة الفلسطينية المنشودة، والميثاق الوطني هو الوثيقة التي انطلقت منها منظمة التحرير وأسست شرعيتها. إدراجهما في القانون كان سيجعل شرط الالتزام الوطني غير قابل للنقاش، ويمنع الاجتهاد في تفسير ما يعنيه "الالتزام" المطلوب من المترشح، ويغلق الباب أمام من يحاول الاستفادة من العملية الانتخابية دون الارتباط بأساسها الوطني.
ورغم غياب هذين النصين المهمين، تبقى الفكرة الجوهرية للشرط واضحة: من يريد الانخراط في العملية السياسية وتولي موقع عام يجب أن يكون جزءاً من الإطار الوطني الذي ارتضاه الفلسطينيون عبر ممثلهم الشرعي والوحيد، لا أن يعمل ضمن مؤسسات الدولة بينما ينكر المرجعية التي تستند إليها تلك المؤسسات. فمن غير المقبول أن يستفيد شخص من صلاحيات يمنحها له القانون، ثم يرفض البرنامج السياسي الذي أنتج هذا القانون، أو يتنصل من الالتزامات الوطنية التي تشكل أساس شرعيته.
ولا يشترط هذا الشرط انتماء المترشح لأي فصيل معين، ولا يلزمه بتغيير هويته السياسية، بل يكفي أن يكون ملتزماً بالجهة الوطنية الجامعة التي تمثل الفلسطينيين أمام العالم. فالحديث هنا لا يدور حول ولاء تنظيمي، بل حول الحد الأدنى من الانتماء الوطني الذي يحفظ وحدة المرجعية السياسية، ويمنع تحول المؤسسات الخدمية إلى أدوات سياسية تعمل خارج إطار المصلحة العامة. فالبلديات، رغم طابعها الخدمي، هي جزء لا يتجزأ من الجسد الوطني، وقراراتها وسلوك شاغليها تعكس صورة النظام السياسي بأكمله.
ويأتي هذا الشرط أيضاً كآلية لحماية النظام السياسي من التفكك، خصوصاً في ظل الواقع الفلسطيني المعقد الذي يشهد تعدداً في المرجعيات وتضارباً في البرامج السياسية. فوجود ممثلين في المؤسسات المحلية يعملون وفق رؤى خارجة عن الإطار الوطني لا يؤدي إلا إلى مزيد من التشتت وإضعاف المؤسسات، فيما يؤسس الالتزام بمرجعية واحدة لوحدة القرار، سواء أكان ذلك قراراً سياسياً أم إدارياً أم خدمياً.
ورغم أن بعض القوى قد تعتبر هذا الشرط تقييداً أو محاولة لإقصاء أصوات معينة، فإن الحقيقة أن البديل هو مزيد من الفوضى وازدواجية المرجعيات، بحيث تتحول الانتخابات إلى بوابة لدخول قوى تعمل خارج الإجماع الوطني، فيما تستفيد في الوقت نفسه من شرعية النظام السياسي الذي ترفض الاعتراف بأساسه. إن وضوح القواعد والمرجعيات لا ينتقص من التعددية السياسية، بل ينظمها، ويجعل المشاركة مسؤولية وطنية لا مجرد منافسة انتخابية.
وفي المحصلة، فإن إدراج وثيقة الاستقلال والميثاق الوطني في نص القانون كان سيعزز وضوح الشرط، ويجعل الالتزام المطلوب غير قابل للتلاعب. ولكن حتى دون تلك الإضافة، يبقى جوهر الفكرة قائماً: لا يمكن لأي شخص أن يطلب ثقة الناس لتولي موقع عام دون أن يلتزم بالأساس الوطني الذي قام عليه النظام السياسي الفلسطيني. فالمشاركة ليست انتقائية، ولا يمكن الحصول على مكاسبها دون تحمل مسؤولياتها. ومن يسعى لتمثيل المواطنين عليه أن يكون جزءاً من الهوية السياسية الجامعة، لا عاملاً خارجها، لأن خدمة الناس تبدأ من احترام المرجعيات التي تحفظ وحدة المجتمع ومؤسساته.



