واشنطن تعيد تموضعها: إقرار بصعوبة نزع سلاح حماس وتبني معادلة أكثر تشددا تجاه لبنان
في الأسابيع الأخيرة، ترسخ في واشنطن قناعة سياسية جديدة مفادها أنّ الهدف الإسرائيلي القديم، القائم على "نزع سلاح حركة حماس بالكامل"، لم يعد قابلاً للتحقيق في المدى المنظور. فبعد أكثر من عامين من الحرب في غزة، ورغم حجم الدمار الهائل والعمليات العسكرية المتواصلة، تكتشف الإدارة الأميركية أنّ قدرة حركة حماس على الصمود وإعادة البناء والتموضع في ظروف قاسية تجعل من الحديث عن "تفكيكها العسكري" أقرب إلى تمنيات سياسية منها إلى إستراتيجية قابلة للتطبيق. هذا التحول في القراءة لا يعكس تغييراً في موقف واشنطن من الحركة بقدر ما يعكس إدراكاً أعمق لطبيعة البيئة العسكرية والسياسية في القطاع، وللمعادلات التي تنشأ في الحروب الطويلة عندما تفشل القوة المفرطة في تحقيق نتائج نهائية وحاسمة.
التصريحات الأميركية الصادرة في الأشهر الأخيرة تحمل إشارات متزايدة إلى هذه المقاربة الجديدة، إذ بدأ مسؤولون في إدارة ترمب يتحدثون عن "الانتقال إلى المرحلة التالية" باعتبارها الخيار الأكثر واقعية، وعن "إدارة مخاطر" قدرات حماس، لا استئصالها. هذه اللغة تمثّل خروجاً تدريجياً عن خطاب الشهور الأولى من الحرب، حين تبنّت واشنطن بالكامل السردية الإسرائيلية حول ضرورة "تدمير الحركة". ومع تراكم المعطيات على الأرض، بات واضحاً أن القدرة العسكرية لحماس، رغم الضربات، لم تُمحَ، وأن بنيتها التنظيمية والسياسية بقيت قادرة على التكيّف مع ضربات هائلة وغير مسبوقة. هذا الإدراك يدفع واشنطن إلى التركيز على اتفاق غزة المرحلي، الذي تحاول منذ أشهر جعله مساراً دائماً يقوم على وقف نار قابل للاستمرار، وترتيبات أمنية متعددة الأطراف، وتنظيم عملية إعادة إعمار مشروطة، وصولاً إلى بناء بنية حكم جديدة تحظى بدعم إقليمي ودولي.
هذا التحول في قطاع غزة يتوازي مع تطور آخر لا يقل خطورة في مقاربة الإدارة الأميركية للجبهة اللبنانية. فالمعلومات المتداولة في واشنطن، وما يظهر في التصريحات الدبلوماسية والعسكرية، يشير إلى قبول أمريكي متزايد بفكرة قيام الجيش الإسرائيلي بعملية واسعة أو "ضربة كبيرة" في لبنان، سواء كانت محدودة في نطاقها أو ذات طابع أوسع يهدف إلى تعديل قواعد الاشتباك مع حزب الله. ويبدو أن واشنطن، على الرغم من تأكيدها المتكرر أنها لا تريد حرباً إقليمية، باتت أكثر استعداداً لغض النظر عن عملية واسعة "محسوبة"، طالما أنها لا تُدخل الولايات المتحدة مباشرة في مواجهة مع إيران ولا تفجّر جبهة الشمال إلى حدّ لا يمكن احتواؤه. هذا القبول يرتبط، في جانب منه، بحسابات أميركية داخلية وخارجية معاً، إذ ترى واشنطن أن الضغط المتزايد على إسرائيل في غزة قد يحتاج من وجهة نظر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى موازنة عبر الشمال، كما ترى في الورقة اللبنانية وسيلة للضغط غير المباشر على طهران وعلى الأطراف المرتبطة بها عندما يتعلق الأمر بملف غزة.
لكن هذا التوجّه لا يخلو من التناقضات. حيث أن ترمب ، الذي يخشى انعكاسات الحرب على وضعه السياسي الداخلي وفي الولايات المتأرجحة، لا يريد الانفجار الإقليمي، وفي الوقت ذاته لا يريد صداماً مع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي تضغط منذ أشهر نحو "حسم" في الجبهة الشمالية. هكذا تجد واشنطن نفسها في منطقة رمادية، تحاول فيها منع التمدد الإقليمي للحرب من جهة، ومن جهة أخرى تسمح لإسرائيل بالتحرك عسكرياً في إطار حدود معينة، في توازن هش يجعل القرار الأميركي يبدو مُشتّتاً بين اعتبارات داخلية، والتزامات إستراتيجية تجاه إسرائيل، ورغبة في تجنب انزلاق المنطقة إلى مواجهة واسعة يصعب التحكم بمسارها.
ويعكس الموقف الأميركي اليوم ازدواجية واضحة: إقرار بفشل الرهان على القوة العسكرية في غزة، ورغبة في التسريع بانتقال سياسي يحدّ من نفوذ حماس دون محاولة شطبها بالقوة، وفي المقابل استعداد لإعطاء إسرائيل مساحة أكبر للمناورة في لبنان بهدف تغيير المشهد الاستراتيجي على حدودها الشمالية. وبين هذا وذاك، تبدو واشنطن كمن يتحرك في مساحة ضيقة بين تهدئة جنوباً واحتمال تصعيد شمالاً، في توقيت لا تزال فيه موازين القوى هشّة، والحسابات الإقليمية متشابكة، ونتائج أي خطأ في التقدير قد تقود إلى انفجار لا تملك أي من الأطراف القدرة على احتوائه بالكامل.





