المرأة الفلسطينية في فضاء الرواية.. قراءة في الجلسة الثالثة من مؤتمر عز الدين المناصرة الثالث

نوفمبر 23, 2025 - 10:38
المرأة الفلسطينية في فضاء الرواية.. قراءة في الجلسة الثالثة من مؤتمر عز الدين المناصرة الثالث

سارة محمد الشماس

لم يكن السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2025 يوماً عابراً في جامعة الخليل؛ فقد ازدانت قاعاتها بثراء البحث والنقد، وهي تحتضن مؤتمر عز الدين المناصرة الثالث، ذلك الفضاء العلمي الذي غدا أحد أبرز المنابر العربية لمناقشة قضايا الأدب الفلسطيني وتقاطعاته مع الوعي الجمعي والهوية والجماليات السردية. هو مؤتمر تلتقي فيه الذاكرة بالبحث، والشعر بالتحليل، والتراث بأسئلة الحداثة، في استحضار واعٍ لروح الشاعر عز الدين المناصرة، الذي ظل يؤمن بأن الأدب جسر للمعرفة، وأن المعرفة امتداد طبيعي لفلسطين.

وقد جاءت أعمال المؤتمر هذا العام تحت إشراف رئيس اللجنة العلمية الدكتور حسين المناصرة، الذي أضفى رؤية منهجية متوازنة تجمع بين التراث والتجديد، وإدارة تنظيمية دقيقة أشرف عليها منسق المؤتمر الأستاذ نزار المناصرة، إلى جانب الجهود الرفيعة التي بذلتها مقررة المؤتمر الدكتورة نائلة حداد في متابعة الأوراق وتنسيق الجلسات وضبط المسار العلمي بكفاءة عالية.

الجلسة الثالثة: حين ينفتح صوت المرأة على أسئلة الهوية

في اليوم الأول من المؤتمر وبحضور نخبة من الأدباء والباحثين والقامات العلمية، التأمت الجلسة الثالثة التي تشرفت برئاستها، تحت عنوان: "صوت المرأة في السرد الفلسطيني وآفاق الموروث". وكان واضحاً منذ اللحظة الأولى أن هذه الجلسة لن تكون استعادة تقليدية لصورة المرأة في الأدب، بل قراءة عميقة في كيفية حضورها بوصفها ذاتاً فاعلة ومؤسسة للوعي، حاملة لطبقات من الذاكرة والحكاية والمقاومة. كانت الجلسة مساحة تلتقي فيها الأسطورة بالتربية، والهوية الأنثوية بالواقع الاجتماعي، في محاولة لرسم ملامح جديدة للمرأة في الرواية الفلسطينية.

أولاً: المرأة بين القيد والتحول… قراءة د. أحمد البسيوني

استهل الجلسة الدكتور أحمد البسيوني بورقة عنوانها: صورة المرأة في السرد الروائي الفلسطيني.. رواية "أنثى" للكاتبة ديانا الشناوي أنموذجا. قدم الباحث قراءة معمقة في كيفية تكوين الشخصية النسوية بين الوعي الذاتي والواقع المعيش، مؤكداً أن الشناوي لم تقدم امرأة مثقلة بالعجز، بل شخصية تتحول إلى مركز للوعي والتحرر الداخلي. لافتاً إلى أن الرواية تقف عند مفترق حساس بين القيد الاجتماعي والتحرر، وأن المرأة فيها ليست متلقية للمحنة، بل صانعة للتحول. وقدم البسيوني تفكيكاً دقيقاً لبنية الوعي النسوي في الرواية، مسلطاً الضوء على قدرتها على إعادة كتابة ذاتها بعيداً عن القوالب النمطية.

ثانياً: الطفولة بوابة القيم… قراءة الأستاذة حنان أبو سنينة

جاءت الورقة الثانية التي قدمتها الأستاذة حنان أبو سنينة بعنوان: مساحة الموروث التربوي في رواية ديمة السمان: " فلفل وجده الأسمر". فتحت الباحثة نافذة على عالم الطفولة، لتكشف كيف يستعيد السرد التربوي دوره في تنشئة الوعي الفلسطيني منذ سنواته المبكرة. وأوضحت أن الرواية لا تربط التراث التربوي بالماضي فقط، بل تحوله إلى منهج وجداني ومعرفي يزعم تشكيل شخصية الطفل الفلسطيني في علاقة حية مع القيم. كما أبرزت قدرة السمان على «تعليم» القارئ من خلال متعة السرد، في مزجٍ نادر بين الرسالة الجمالية والدلالة التربوية.

ثالثاً: الأسطورة والمخيال الشعبي… قراءة الأستاذة غدير زبون

أما الورقة الثالثة التي قدمتها الأستاذة غدير زبون فكانت بعنوان: الموروث الشعبي في رواية "رائحة الميرمية" لسناء أبو شرار: قراءة تحليلية أضاءت الباحثة علاقة الرواية بالأسطورة والموروث الشعبي، مركزة على كيفية تحويل هذه العناصر إلى لغة سردية مقاومة. فقد كشفت أن «الميرمية» ليست مجرد نبات عطري، بل رمز للثبات والذاكرة، وأن الرموز التراثية تتحول إلى استعارات للوجدان الفلسطيني، وإلى حوامل للمعنى السياسي والوجودي. حملت الورقة بعداً نقدياً دقيقاً في تحليل الرموز وكيفية توظيفها لخلق سرد يتجاوز الواقع نحو أفق دلالي رحب.

رابعاً: الأنثى بين القدر والهوية… قراءة الأستاذة رجاء الشوامرة

قدمت الأستاذة رجاء الشوامرة الورقة الرابعة بعنوان : صورة المرأة في رواية " ربّ إني وضعتها أنثى" لنردين أبو نبعة. انطلقت الباحثة من سؤال جوهري: هل المرأة كيان خاضع للقدر، أم ذات تتشكل عبر قراراتها؟ بذلك قدمت قراءة تستجلي الصراع الداخلي للشخصية النسوية في الرواية، وكيف تعيد البطلة تشكيل مفهومها للهوية في ظل ضغط المجتمع والتقاليد والتوقعات الروحية. كانت الورقة ثرية في بعدها النفسي، وقدمت قراءة تجعل من الأنثى سؤالاً وجودياً داخل الرواية الفلسطينية.

خامساً: تجليات الموروث في السرد… قراءة د. فادي عصيدة

ثم جاء دور الدكتور فادي عصيدة الذي قدم ورقته تحت عنوان :تجليات الموروث الشعبي في رواية "قد شغفها حباً" لنردين أبو نبعة. فتح الباحث نافذة جديدة على عالم نردين أبو نبعة، مسلطاً الضوء على كيفية استثمار الرواية للموروث الشعبي بوصفه مصدراً للتشكل الجمالي والوجداني. ناقش عصيدة رموز الحبّ والقدر والبحث عن المعنى، مبيناً كيف يتحول التراث الشعبي إلى عنصر مشكل للهوية السردية، لا مجرد خلفية ثقافية.

سادساً: تقنيات السرد الحديثة… قراءة الأستاذة مريم أبو كريم

واختتمت الجلسة بورقة الأستاذة مريم أبو كريم بعنوان :تقنيات السرد الحديثة في رواية "لا تشبهها" للكاتبة ليلى الأطرش .ورقة ثرية في بعدها التقني، إذ ركزت على كيفية تبني ليلى الأطرش أساليب سردية معاصرة، مثل تعدد الأصوات، وتكسير حبكة الزمن، والانتقال بين المنظورات، في صياغة رواية تعكس تحولات الوعي الأنثوي ورغبتها في إعادة تشكيل علاقتها بالعالم. أوضحت الباحثة أن هذه التقنيات لا تأتي للزينة الجمالية، بل تشكل بنية دلالية توازي تحولات الشخصية نفسها.

أهمية الجلسة في فضاء المؤتمر

ما منح الجلسة قوتها ليس فقط تنوع الأوراق، بل قدرتها على جمع تيارات نقدية متعددة في رؤية واحدة: أن المرأة الفلسطينية في السرد ليست ظلاً للرجل، ولا هامشاً في الرواية، بل جوهر الحكاية وروح الهوية. لقد جسدت الجلسة روح مؤتمر عز الدين المناصرة: البحث في جماليات السرد، وجماليات المقاومة، ومساءلة الوعي عبر الرواية.

حين يصبح السرد بوابة لخلاص الذاكرة

إن الجلسة الثالثة من مؤتمر عز الدين المناصرة الثالث لم تكن مجرد فقرة في برنامج، بل مساحة فكرية أعادت تموضع المرأة داخل السرد الفلسطيني، بوصفها خزان الذاكرة ومرآة الهوية وفضاء المقاومة اللغوية والثقافية.

من بين الأسطورة والتربية والوجدان والقدر والموروث الشعبي وتقنيات الحداثة، خرجت الأوراق لتقول إن المرأة الفلسطينية في الرواية ـليست مرويةً أو تابعاً، بل ذات تعيد تشكيل العالم وتكتب هوية الوطن على نصوصه.

بهذه الروح اختتمت الجلسة، لتبقى علامة مضيئة في اليوم الأول من المؤتمر، وشاهداً على أن الأدب ما زال يكتب فلسطين، وأن المرأة ما تزال صوته الأكثر صدقاً وعمقاً وجمالاً.