الطين الذي لا ينكسر: وجوه الصمود في مرآة القهر المزدوج
منى ابو حمدية
منى ابو حمدية
مدخل إلى العالم الروائي
رواية سلالة من طين للكاتبة قمر عبد الرحمن من الخليل، هي صرخة إنسانية ووثيقة وجدانية تصوّر معاناة الإنسان الفلسطيني بين القهرين: قهر الاحتلال وقهر المجتمع. تدور أحداثها في غزة، تلك المساحة التي تتحوّل فيها الأرض إلى ذاكرة، والبحر إلى مرآةٍ للوجع، والإنسان إلى كتلة من الصبر النابض.
الكاتبة تُقيم سردها على ثنائية الطين والماء؛ الطين رمز الجذر والأصل، والماء رمز الحياة والانكسار معاً. ومن خلال شخصياتها -مريم، نضال، آدم، وأم نضال- تجعل من الألم الفلسطيني دراما إنسانية تتجاوز حدود المكان والحدث.
ثيمة الوجع الإنساني بين البيت والوطن
يبدأ السرد بمأساة مريم، تلك الفتاة التي تموت قهراً على يد زوجٍ ظالم، وأبٍ اختار المجتمع على ابنته. تصوّر الكاتبة المشهد بكثافة مأساوية حين يكتشف آدم موت أخته في الحمّام، فيصرخ:
«مرياااااااااااااااااااام.. أفيقي يا حبيبتي.. أنا أعلم أنك مظلومة، ليتني لم أتركك بيد الظالم زوجك والظالم أبي» (ص18).
هذا المشهد يُعدّ مفتاح الرواية، فهو لا يفضح مأساة امرأة واحدة فحسب، بل يكشف مرض المجتمع الذي يقتل النساء باسم العيب والشرف، ويُغلق أبواب العدالة بأقفال الخوف والعار. الكاتبة تُحوّل الجريمة الفردية إلى سؤال اجتماعي أخلاقي كبير:
هل الخوف من "كلمة الناس" يعلو على الخوف من الله؟ كما يقول آدم في صرخة الوعي الموجعة:
«يخافون من سمعتهم أمام الناس أكثر من خوفهم من الله… بخافوا من كلمة عيب أكثر من كلمة حرام!» (ص12).
البنية الرمزية للبحر والطين
البحر في الرواية ليس مجرد خلفية جغرافية، بل كيانٌ روحيّ يتنفس من خلال الشخصيات، خاصّة في حديث آدم مع أمّه حين يقول مازحاً:
«يمكن أن يصبح البحر قهوة في الليل!» (ص7).
لكن خلف هذا المزاح، يختبئ وعيٌ بالتحوّل، فالبحر الذي يُشبه القهوة المرة يختزل مرارة الحياة اليومية في غزة. إنّ البحر هنا هو مرآة الوجدان الفلسطيني، بين مدّ الحلم وجزر الواقع.
أما الطين، الذي تحمله الرواية في عنوانها، فيرمز إلى الانتماء؛ فهو الجذر الذي يُعيد الإنسان إلى أصله رغم ما يمرّ به من صهرٍ ومعاناة. فكلّ الشخصيات، رغم هشاشتها، تنبثق من الطين وتعود إليه. تقول الكاتبة بلسان السارد:
«الأطفال في غزة لا يولدون أطفالاً، يولدون رجالاً» (ص25).
بهذه الجملة، تختصر الكاتبة فلسفة الرواية كلها: الطفولة تُغتال مبكراً في واقعٍ لا يعرف البراءة.
نضال والأسْر.. مرآة الوطن الأسير
شخصية نضال، شقيق مريم، تمثّل الوجه السياسي للرواية. فبينما تموت أخته ضحية القهر الداخلي، يُسجن هو ضحية الاحتلال الخارجي. في السجن، تتحوّل الشمس إلى رمز للخديعة والأمل المكسور:
«كانت الشمس تهرب من منظرنا لإسدال ستارة الليل على الفضيحة الإنسانية» (ص44).
هنا يشتبك الواقعي بالرمزي، فـ"الفضيحة" ليست فقط قسوة السجان، بل صمت العالم أمام معاناة الأسير الفلسطيني. نضال يصبح مرآة جماعية، يتألم بصمتٍ ويحتفظ بالأمل كآخر مقاومة ممكنة. تقول الكاتبة:
«ظنّ أن النهار لن يطلع إلا في الحياة الآخرة» (ص45).
الأم الفلسطينية.. مجد الصبر وملح الذاكرة
أم نضال، أم آدم ومريم، هي حجر الزاوية في الرواية، ترمز إلى فلسطين الأم، التي تتلقى الضربات من كل الجهات لكنها لا تسقط. تقول الرواية عنها:
«كم اشتقت ليدك الحانية على كتفي، يا أمي.. ما أعظم صبرك!» (ص58).
تتجلّى فيها صورة المرأة الفلسطينية الجامعة بين الرقة والصبر، فهي تحنو على أبنائها وتوبّخ زوجها في الوقت نفسه دفاعاً عن ابنتها:
«من لا يحنّ على زوجته لا يحنّ على ابنته!» (ص58).
بهذه الجملة، تضع الكاتبة معياراً أخلاقياً شاملاً، يمتدّ من العائلة إلى الوطن؛ فالقسوة في البيت هي الوجه الآخر للقسوة في السياسة.
الغزّاوي بين الحرب والأمل
في الفصول الأخيرة، تأخذ الرواية بعداً وطنياً شاملاً، حين تتحوّل غزة إلى مسرحٍ للموت اليومي. تصف الكاتبة مشهد الحرب بلغة تجمع بين الشعر والتوثيق:
«صوت القذائف التي تسقط من سماء القطاع فشّلت آماله بوطنٍ أخضر» (ص155).
لكن رغم الخراب، يبقى الأمل العنصر الأقوى في النسيج الروائي، إذ تقول أم نضال لابنها الخائف:
«شو رح يصير يعني؟ أكتر إشي رح نموت! عادي لا تخاف… الوجع طول والكلّ خايف من اللي جاي» (ص155).
إنها فلسفة البقاء الفلسطينية: لا مكان للانهيار حتى في قلب العاصفة.
اللغة والأسلوب
لغة الرواية تمتاز بالتوازن بين السرد الواقعي واللغة الشعرية المفعمة بالرموز. الجمل قصيرة لكنها مشحونة بالإيقاع الداخلي. الحوارات تمزج العامي بالفصيح لتقريب المسافة بين القارئ والعالم الغزّي. كما تعتمد الكاتبة على تقنية التوازي بين الخاص والعام: قصة مريم تُوازي قهر الوطن، وسجن نضال يُوازي حصار غزة، وحزن الأم يُوازي نكبة الأرض.
في موضعٍ آخر، تختصر الكاتبة فلسفة الحياة والموت في فلسطين بعبارةٍ تستحق أن تُعلّق على جدار الذاكرة:
«موت الصامدين على أرضهم فخر لهم، وموت أهل الشتات في قلوبهم حنينٌ فلسطينيٌ فخر» (ص90)
البنية النفسية والرمزية للشخصيات
كل شخصية في الرواية تحمل رمزاً يتجاوز وجودها الفردي:
●مريم: تمثل الأرض المقهورة.
●الأب: رمز المجتمع الذكوري المريض بالخوف من العيب.
●نضال: رمز المقاوم الأسير.
●آدم: يمثل الجيل الجديد الحائر بين الحب والوطن.
●الأم: الوطن الأم، رحم الألم والقداسة.
ومن خلالهم، تبني الكاتبة مشهداً بانورامياً للوجع الفلسطيني، حيث لا فصل بين الخاص والعام، ولا بين العائلة والوطن.
الخاتمة – سلالة الطين التي لا تموت
تختتم الكاتبة روايتها بتأملٍ وجودي عميق: «لماذا الفلسطيني مجبر على مزج شعورين في شعور واحد؟ لا يمكن للحزن أن ينفصل عن الفرح في فلسطين!» (ص119).
إنها الخلاصة الروحية للرواية: الفلسطيني يعيش ازدواجية الوجع والأمل، الموت والحياة، النكبة والمقاومة في لحظة واحدة. سلالة من طين هي سلالة الخلود، الطين الذي لا يذوب، بل يتشكل من جديد كلّما حاولت القذائف سحقه.
خاتمة تحليلية
تنجح قمر عبد الرحمن في تقديم نصٍّ روائيٍّ يجمع بين الواقعية الاجتماعية والرمزية الوطنية.
الرواية ليست فقط توثيقاً للألم، بل محاولة لإعادة تعريف البطولة في زمن الانكسار.
إنها تكتب عن غزة لا بوصفها جغرافيا للحصار، بل بوصفها مختبراً للإنسانية، حيث يولد الأطفال رجالاً، وتموت النساء واقفات.





