حين تتحول الخدمة إلى موقف سياسي!
أمين الحاج
أمين الحاج
في لحظة فلسطينية مختلة إلى حد القسوة، تعود الأجواء الانتخابية بلغة الاستحقاق واللوائح والتحالفات، وفي حين تنشغل المدن والقرى بحسابات القوائم وحظوظ الفوز، تغرق غزة في ظلام مادي وسياسي، بفعل حرب إبادة لم تنته فصولها، وانهيار لمقومات الحياة، هذا التزامن لا يبدو تفصيلا عابرا، بل يعكس أزمة في المشهد الوطني، حيث تتحرك السياسة في مسار، بينما يعيش شعبنا خارج أي أفق سياسي، وعودة الانتخابات بمعزل عن هذا الجرح المفتوح، تطرح أسئلة حول قدرة النظام السياسي على قراءة اللحظة التاريخية.
في هذا السياق، يعاد فتح الجدل القديم مع قانون الانتخابات المحلية، فهل نحن أمام انتخابات خدمية هدفها تحسين ادارة الشأن اليومي؟ أم أداة سياسية جديدة لإعادة الفرز السياسي؟ جوهر الاشكال ان القانون يشترط على المرشحين الالتزام ببرنامج المنظمة والتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية كشرط للترشح، الشرط ليس تفصيلا تقنيا، بل مدخل سياسي مباشر لانتخابات يفترض انها محلية وخدمية.
الشارع لا يتعامل مع هذا النص كمسألة قانونية مجردة، بل كسؤال حول علاقة البرنامج السياسي بمجلس مطلوب منه اصلاح شبكة مياه، رفع نفايات، واصلاح شارع دمرته جرافات الاحتلال او استنزفته سنوات الاهمال؟ هنا ينقل النقاش من الحق بالترشح الى الحق بالخدمة، والرسالة الضمنية واضحة، التمثيل المحلي مشروط بسقف سياسي، حتى لو كان المرشح هو الاقدر اداريا او القائمة بلا لون حزبي، فبدل توسيع نهج المشاركة، يضيقها، ويحول الانتخابات الى مساحة اقصاء، لا تنافس.
المشكلة ليست وليدة نص قانوني، بل امتداد لمسار طويل، حيث جرى تسييس مؤسسات خدمية وتحويلها الى حلقات في صراع الشرعيات، وحين تصبح الهيئات جزءا من شبكة نفوذ، او رضى سياسي وميزانيات مشروطة، تتحول الانتخابات من وسيلة اصلاح الى اداة لحماية موازين قوى قائمة، ويصبح الشرط صمام أمان للنظام، لا معيار خدمة، لكن هذا الرهان يتجاهل حقيقة ان المواطن لا يحاسب الهيئات على خطابها، بل على ادائها.
الاخطر ان هذا يعيد تعريف الكفاءة، فبدل ان تكون النزاهة والقدرة على الادارة في الصدارة، يصبح الغطاء السياسي هو الدرع الحامي، ويتحول معه الفشل الاداري الى فشل محمي بالولاء، وهو ما يفسر اعتراضات جهات اهلية وحقوقية رأت فيه مساسا بالتعدد.
وهنا تبرز المفارقة، فالقانون سيرتد على حركة فتح، لا التضييق على خصومها، وهي من تحمل تبعات الأداء العام منذ اوسلو، ودفعت كلفة تراكمات اقتصادية وخدمية وغيرها، وحين تفشل الهيئة المحلية، لن يناقش المواطن مواد القانون، بل سيسأل عمن كان ممسكا بالمفاصل، وحين ترتبط بشروط الفرز والاقصاء، تصبح هي واجهة الاخفاق القادم، وتغلق على نفسها باب التذرع بالتنافس او التعدد.
التنبؤ هنا ليس مغامرة، بل قراءة لتجربة تكررت، فكلما ضاقت خيارات السياسة اتسع الغضب، فالهيئات المحلية نقطة احتكاك يومي، والمواطن قد يحتمل جدلا سياسيا، لكنه لا يحتمل سوء خدمة، او دفع فواتير بلا مقابل، ما يعيد انتاج الدورة نفسها، فشل خدمات، غضب، ثم عقاب سياسي.
ويزداد هذا العبء ثقلا في لحظة يرى فيها الشارع ازدواجية فاضحة في النظام الدولي، خاصة مع استمرار العدوان والاستيطان بلا مساءلة، وحين يرى ان ترشحه مقيد بهذا المنطق، سيشعر ان المطلوب ليس فقط موقفا سياسيا، بل قبول منظومة قيود وتجارب لم تحمه، وهذا كاف لتفريغ الانتخابات من مضمونها، بل وتحويلها الى اجراء شكلي يزيد الاحتقان، لا ينفسه.
قد يقول المدافعون عن القانون إنه سيحمي النظام من تسلل قوى معارضة، او من تسييس الهيئات ضد المشروع الوطني، لكن هذا المنطق سينهار امام سؤال واحد ووحيد، هل نجحت هذه الاشتراطات في كبح الفشل والفساد؟ والواقع يقول ان تسييس الخدمات لم يحصن السياسة، بل اضعفها، والخلط بين الولاء والادارة ما هو الا وصفة لازمة لأزمة جديدة.





