الحرف المهنية والذكاء الاصطناعي

عبد الرحمن الخطيب

ديسمبر 7, 2025 - 10:05
الحرف المهنية والذكاء الاصطناعي

عبد الرحمن الخطيب

في مساحة العمل اليدوي كالكهربائي أو النجّار أو الحدّاد،  تتلاقى المعرفة العملية مع الحسّ الميكانيكي والقدرة على التكيّف مع البيئات غير متوقعة، هذه الحرف ليست مجرد مهام تقنية بحتة؛ هي ممارسات تراكمية تتشكّل من خبرة السنوات، حلولاً لحالات مفاجئة، وقرارات سريعة على أرض الواقع، ومع تسارع موجة التقنيات والذكاء الاصطناعي، يطرح سؤال واضح وبسيط لكنه ثقيل: هل يحلّ الذكاء الاصطناعي مكان الحرف المهنية؟

وللموضوعية، فإن التطور التكنولوجي يوسّع نطاق ما يمكن لأدوات الذكاء أن تفعله، لكنه لا يلغى بالكامل واقع الحسّ اليدوي، فمؤسسات بحثية كبرى تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات يعيدان تشكيل حدود العمل، لكن النتيجة المتوقعة ليست استبدالاً كاملاً بل شراكةً جديدة بين الإنسان والآلة وهو ما أشرنا إليه مراراً وتكراراً، فالذكاء يصبح وكيلاً ومساعداً يرفع إنتاجية العامل ويقلل الأخطاء في الأعمال المتكررة أو الخطط التصميمية، لكنه لا يملك بعد قدرةً كاملة على المحاكاة المقنعة للحكم الميداني في بيئات غير متوقعة. 

الدلائل العملية تُظهر وجهين متقابلين. من ناحية، ثمة تقنيات وأجهزة روبوتية قادرة على أداء مهام متخصصة في البناء والصناعة... الخ، من رصد الأخطاء إلى تنفيذ عمليات رفع وتجهيز معيارية، دراسات تُقدّر إمكانات الأتمتة في بعض مهام الصناعة اليدوية بآحادٍ مرتفعة، خصوصاً للمهام القياسية والمتكررة، ولكن من ناحية أخرى، يواجه قطاع الحرف نقصاً فعلياً في الكفاءات؛ السوق يطلب حرفيين أكثر وليس أقل، لأن الطلب على الخدمات المباشرة يزداد مع توسع العمران والتجديد وتغيرات أنماط الحياة، وهذا ما تبرزه دراسات أحدث ترجّح أن الحاجة إلى الحرفيين حقيقية ولا تقلّ بفعل التكنولوجيا على الفور. 

هل يمكن أن يصبح الحرفي بلا عمل؟ المنطق الاقتصادي والواقعي يشيران إلى أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو إعادة تشكيل الدور لا إلغاؤه، الذكاء الاصطناعي يمكن أن يأخذ على عاتقه مهام التخطيط، التصميم الافتراضي، تشخيص الأعطال الاستناداً إلى بيانات من حسّاسات منتشرة مثلاً، أو حتى اقتراح حلول أسرع لصيانة نظام معيّن، وهذا يتيح للحِرَفي أن يكرّس وقته للمهام التي تتطلب مهارة يدوية ومعرفة لحظية: التعامل مع مواد غير متوقعة، تعديل حلول على قدر المكان، وإدارة التفاعلات البشرية مع العملاء، بمعنى آخر، الذكاء يرفع مستوى العمل بدلاً من أن يلغي الحاجة إليه في المدى القريب والمتوسّط. 

ثمّ هناك عنصر التدريب وتحوّل المهارات: كلما توغل الذكاء في أطر العمل، تطلّب الأمر حرفيين قادرين على التعامل مع أدوات رقمية مثل  قراءة مخططات رقمية أو استخدام تطبيقات تشخيصية أو التنسيق مع روبوتات مساعدة، وهنا سيبرز نوع جديد من الحِرَفيين: من يبرع في أدوات اليد ومن يضطلع أيضاً بفهم تقني رقمي، فهذا التحوّل قد يكون فرصة لا تهديداً: في دول شهدت تقدماً مبكّراً في تبنّي التكنولوجيا ارتفعت الحاجة إلى مهارات هجينة تجمع بين اليد والعقل الرقمي. 

لكن، لا ينبغي أن نغفل عوامل التقيّد: القيود التقنية، القوانين، التكلفة، وقبول السوق. الروبوتات العامة (humanoids) قد تبدو واعدة على الأوراق، لكن انتشارها الواسع تواجهه تحديات تشغيلية وتمويلية وتنظيمية قد تستغرق سنوات لتتجاوزها. وفي الوقت نفسه، ثمة تحوّلات اجتماعية -كميول الشباب نحو مهن يراها أقل عرضة للأتمتة- تؤثر على توازن العرض والطلب في السوق. تقارير صحفية حديثة تشير إلى أن بعض الشباب في دول أوروبية يتحوّون إلى تعلم الحرف بدافع الخوف من مخاطر خسارة الوظائف المكتبية لصالح الذكاء، وهذا يعكس أن الحرفة قد تصبح ملاذاً مادياً ومعنوياً لجزء من القوى العاملة. 

الذكاء الاصطناعي سيغيّر طابع الحرف المهنية، لكنه لن يحلّ محلّها بسرعة أو كلياً، والسيناريو المرجّح هو إعادة توزيع للمهام، ارتفاع في الطلب على مهارات هجينة، وظهور أدوات جديدة تزيد كفاءة الحرفي وتحمِيه من الأخطاء المتكررة والأهم أن السياسات التدريبية والتعليمية يجب أن تستبق هذه التحولات: دعم برامج تدريبية، تبني تكنولوجيا مساعدة بجانب تحسين الأجور والظروف، وحماية مهارات تتطلب التجربة والحدس.

أمّا فلسطينياً حيث تتركز التحديات في فجوات التدريب، قيود الموارد، والبنية التحتية، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة لتعزيز جودة العمل الحرفي -عبر أدوات تشخيص أرخص، تعليم عن بعد، ومكتبات معرفية متاحة للورشة- لكنه لن يحلّ مكان الحِرَفي الفلسطيني الذي يبقى محركاً أساسياً للاقتصاد المحلي، فالحفاظ على هذه المهارات، وتحديثها بتدريب رقمي عملي، الطريق الواقعي لضمان أن يكون الذكاء شريكاً لا بديلاً.