في مشهدية السياسات والمواقف الإنسانية: الكنائس المسيحية إلى جانب غزة
المستشار د. أحمد يوسف
المستشار د. أحمد يوسف
كشفت حرب الإبادة على قطاع غزة عن تحوّلٍ عميق في مواقف الكنائس المسيحية، شرقًا وغربًا، تجاه العدوان الإسرائيلي وسياساته الوحشية. فقد بدا أن الضمير المسيحي العالمي لم يعد قادرًا على التزام الصمت أمام ما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون من قتل وتجويع وتدمير ممنهج. وبين خطابات تدافع عن العدالة وحقوق الإنسان، وأخرى بدت أسيرةً لضغوط السياسة واللوبيات، برز المشهد المسيحي العام أكثر اتساقًا مع قيم الرحمة والحق.
في الشرق، أصدرت الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية مواقف حازمة أدانت فيها قصف الكنائس والأديرة واستهداف المدنيين، واعتبرت أن ما يجري هو “اعتداءٌ ممنهج على المراكز الدينية والإنسانية”. وفي تصريح شديد الوضوح، قال البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، رئيس الكنيسة الكاثوليكية في القدس:
"ما يحدث في غزة يتجاوز حدود الألم الإنساني، وهذا العنف لا يمكن أن يُبرَّر تحت أي ذريعة."
وفي مصر والأردن، شددت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومجالس الكنائس على أن استمرار استهداف المدنيين وإغلاق الممرات الإنسانية يمثل خرقًا فاضحًا للقيم الروحية والدينية، داعيةً إلى تحرك دولي عاجل لوقف نزيف الدم.
أما المسيحيون الفلسطينيون، فقد كانوا في قلب الحدث، وخط الدفاع الأخلاقي الأول. فوسط القصف والحصار، فتحت الرهبانيات والكنائس أبوابها لإيواء مئات الأسر المسلمة والمسيحية، وقدّمت ما تستطيع من طعام ومأوى. ومنذ الأسابيع الأولى للحرب، قال المطران عطا الله حنّا:
"نحن لا نرى في غزة حربًا، بل نرى محاولة لإبادة شعبٍ بأكمله، وصمت العالم جريمة إضافية."
ولم يقتصر الموقف على القيادات الكنسية، بل برزت أصواتٌ فلسطينية لها تأثيرها الروحي، كان أبرزها الأب منويل مسلَّم، الذي قال في رسالة مؤثرة وجّهها إلى العالم:
"إن أطفال غزة يُذبحون على مرأى العالم، والكنيسة التي تنحاز للإنسان المظلوم هي الكنيسة التي تُشبه المسيح حقًا."
هذا الخطاب يعكس روحًا مسيحية أصيلة تتجاوز السجالات السياسية، وتستند إلى منظومة قيمية ترى في الإنسان مخلوقًا مُكرّمًا، يجب أن يُحمى مهما كانت هويته أو دينه.
في الغرب، كانت المواقف أكثر تعقيدًا، لكنها لم تخلُ من أصوات شجاعة وقوية. ففي الولايات المتحدة، أصدر تجمع لأساقفة تقدميين بيانًا لافتًا قال فيه الأسقف توماس غوميز:
"لا يمكن للكنيسة أن تبقى على الحياد بينما تُقصف بيوت الأبرياء. إيماننا لا يسمح بتبرير الظلم مهما كان الطرف الذي يمارسه."
كما تبنت كنائس بروتستانتية تقدمية مواقف داعمة لحقوق الفلسطينيين، ودعت لوقف الدعم العسكري لإسرائيل، بل وصوّت بعضها لصالح سحب الاستثمارات من الشركات المتورطة في المستوطنات والانتهاكات، في خطوة اعتُبرت تحولًا مهمًا في الموقف المسيحي الغربي.
وفي أوروبا، صدرت بيانات واضحة من كنائس بريطانيا وألمانيا والدول الإسكندنافية، حمّلت إسرائيل مسؤولية استهداف المدنيين، وشارك رجال دين في التظاهرات الشعبية الداعمة لغزة، مؤكدين أن صمت الكنيسة “خيانة للمبادئ المسيحية”.
ورغم هذا الاتجاه العام، شكّلت بعض الطوائف الإنجيلية في الولايات المتحدة –ومنها شخصيات داخل الإدارات المتعاقبة– استثناءً لافتًا بمواقفها المؤيدة بلا تحفظ لإسرائيل، مستندةً إلى سرديات لاهوتية تُناقض القيم الإنسانية والإيمانية المشتركة. ومع ذلك، تبقى هذه الأصوات خارج السياق العام للموقف المسيحي الذي يزداد وضوحًا وانحيازًا لحقوق الإنسان الفلسطيني.
وفي المقابل، برزت شخصيات مسيحية ذات تأثير عالمي، مثل الراهبة البريطانية هيليدا ديكسون، والمفكر اللاهوتي كورنيل ويست، اللذين وصفا ما يحدث في غزة بأنه “لحظة سقوط أخلاقي للغرب”. كما شهدت دول أميركا اللاتينية، خصوصًا البرازيل وتشيلي، مواقف كنسية واسعة تطالب بوقف الحرب، متأثرة بالحضور التاريخي للجالية الفلسطينية المسيحية هناك.
إن هذه المواقف –على تنوعها– تكشف أن الكنائس ليست كتلة واحدة متجانسة، لكنها تلتقي عند محور أخلاقي أساسي: رفض الظلم، والاعتراف بالمعاناة الإنسانية، والدعوة إلى حماية الأبرياء. وبين الشرق والغرب، يظهر اتجاه متنامٍ نحو التضامن مع الشعب الفلسطيني، لا بوصفه نزاعًا سياسيًا، بل بوصفه اختبارًا لضمير العالم والمبادئ التي تقوم عليها المسيحية ذاتها.
لقد وضعت مأساة غزة الضمير المسيحي أمام امتحان حقيقي، وبات واضحًا أن قطاعات واسعة من المسيحيين ترى في ما يجري مأساة أخلاقية لا يمكن السكوت عنها. ومع اتساع الأصوات المناهضة للإبادة، يبدو أن الكنائس اليوم أصبحت جزءًا من حركة عالمية للدفاع عن العدالة وكرامة الإنسان، مجددةً التأكيد على أن الرحمة ليست شعارًا، بل التزامٌ أخلاقي يحكم المواقف والسياسات.





