اغتيال طبطبائي ... رسائل إسرائيلية متعددة الاتجاهات
راسم عبيدات
راسم عبيدات
التصعيد العسكري الإسرائيلي المفتوح والمستمر ضد حزب الله اللبناني تَكَثَّف بشكل لافت في الفترة الأخيرة. سعت إسرائيل، بالشراكة مع الولايات المتحدة، إلى فرض معادلات ردعية جديدة تُرسَّخ في سوريا ولبنان وقطاع غزة، وصولًا إلى طهران. ولعل إسرائيل في هذا التصعيد المحسوب تريد أن تمنع انزلاق الموقف إلى مرحلة يصعب السيطرة عليها. وهي تبني حساباتها على أن حزب الله لم ينهِ بعد عملية ترميم قدراته العسكرية والتسليحية، رغم الضربات القاسية التي تلقاها خلال الحرب الإسنادية، عندما دعَمَ المقاومة الفلسطينية في غزة.
لقد نجحت إسرائيل في تصفية العديد من القيادات الأمنية والعسكرية في حزب الله، وصولًا إلى أمينيه العامين، سماحة السيد حسن نصر الله، والشيخ هاشم صفي الدين. وهي تدرك أن قدرة حزب الله على الرد مرتبطة بعدة عوامل داخلية وخارجية، في مقدمتها: أن الشريان التسليحي واللوجستي والتقني للمقاومة اللبنانية والفلسطينية قد تم قطعه أو إحكام السيطرة عليه، بعد النجاح في إسقاط سوريا دولة ونظام، واستقدام نظام جديد نقل سوريا من الضد الى الضد، حيث اخرج الحزب وايران من سوريا، وقطع شريان امداده العسكري البري. في الوقت نفسه، يعمل النظام القائم في لبنان تحت سقف الإدارة الأمريكية.
لم يكتف هذا النظام بإغلاق مطار بيروت أمام أي مساعدات عسكرية أو مالية قد تصل إلى حزب الله عبره، بل اعتبر أن المشكلة تكمن في سلاح المقاومة نفسها، وليس في الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على لبنان، سواء برًّا أو جوًّا أو بحرًا، وعلى خرق السيادة اللبنانية. لذلك أعلن بصريح العبارة أن أولوياته هي نزع سلاح المقاومة، من أجل ما يسميه «بسط السيادة اللبنانية» على كامل الأراضي اللبنانية، عبر نزع سلاح المقاومة طمعًا في تحقيق الأمن والاستقرار، ولإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي اللبنانية عن طريق الضغوط الدبلوماسية والسياسية، وعن طريق شكاوى "العجزة" إلى مجلس الأمن الدولي.
هذا النظام اللبناني لا يختلف كثيرًا عن النظام الذي تشكّل بعد اجتياح إسرائيل لبيروت في حزيران 1982.
باتت الأوضاع التي يعمل فيها حزب الله الآن أكثر صعوبة وتعقيدًا: داخل لبنان لا يملك فيه الحزب شرعية داخلية كبيرة، وبيئة خارجية محيطة معادية، وشريك لبناني مع أمريكا فيما يُسمى بمحاربة "داعش" (والذي يرى البعض أنه صناعة استخباراتية أمريكية)، فيما يُنظر إلى المقاومة الفلسطينية وأنصار الله والحرس الثوري الإيراني من قبل هذا الشريك كمصالح معادَلة. البيئة الداخلية لا توفر له الدعم لرد قوي، رغم أن إسرائيل تجاوزت خطوطًا حمراء واستهدفت الرجل الثاني في الحزب، رئيس الأركان، القائد أبو علي الطبطبائي.
في مواجهة ذلك، يجد الحزب نفسه أمام خيارات صعبة ومحصورًا بين الضغوط للرد أو السكوت. الرد مهم لحفظ هيبته وسمعته، ومنع إسرائيل من تحقيق أهدافها في فرض معادلات ردعية جديدة. إحدى الرسائل التي ترمي إليها إسرائيل من هذه العملية هي أن المعادلات الردعية التي كانت قائمة عام 2024 قد سقطت إلى غير رجعة.
لكن ما يصعب على الحزب الرد هو البيئة الداخلية: لا شرعية واسعة له داخل النظام الحاكم، الذي يرى المقاومة عبئًا على بسط الجيش اللبناني للسيادة، وليس في الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على لبنان ما يُحرّكهم كثيرًا. الرسالة التي ترسلها إسرائيل أيضًا إلى الدولة اللبنانية مفادها أنه يجب عليها أن تنخرط فعليًا في نزع سلاح حزب الله، حتى بالقوة، وأن توافق على تغيير شروط وقف إطلاق النار، بل والتخلي عن بعض الأراضي اللبنانية كمناطق أمنية إسرائيلية لضمان أمن المستوطنات في الشمال وإعادة المستوطنين إليها.
هناك أيضًا رسالة موجهة إلى المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس في غزة: ما يُطبَّق على حزب الله في لبنان من نزع سلاح، قد يُطبَّق لاحقًا في قطاع غزة، ولن يكون هناك وقف لإطلاق النار أو انتقال إلى مرحلة ثانية من الخطة الأمريكية بدون تجريد حماس من سلاحها.
أما الرسالة إلى إيران فهي واضحة: التفوق الاستخباري والتكنولوجي الإسرائيلي بالشراكة مع واشنطن، إذا لم تستجب طهران للشروط الأمريكية والأوروبية بشأن برنامجها النووي، وتقليص مدى صواريخها البالستية والفرط صوتية، فقد يكون هناك جولة عسكرية كبيرة.
من جهة أخرى، يريد نتنياهو من هذه العملية أن يعزز روايته داخليًا، في إسرائيل، عن ما يسميه «حرب الجبهات السبع أو الثمانية» التي تغيّر وجه الشرق الأوسط. والأهم من ذلك، أنها تتيح له صرف النظر عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية لدرس إخفاقات 7 أكتوبر/2023 الأمنية والاستخبارية، حيث عمد رئيس اركان جيش الإحتلال ايال زامير الى اقالة عدد من القيادات الأمنية ،التي اعتبرت كمسؤولة عن هذا الإخفاق، قائد وحدة العمليات ورئيس شعبة الإستخبارات العسكرية وقائد الوحدة (8200) والعديد من القيادات الأمنية.
هذه العملية الإسرائيلية من شأنها أن تزيد من حالة الإرباك التي يعيشها لبنان والمربك أصلاً، فخيار نزع سلاح المقاومة سيصبح أكثر صعوبة، والخيارات الدبلوماسية والسياسية والبكاء عند الأمريكي، لدفع إسرائيل للالتزام بوقف إطلاق النار وسحب قواتها من الأراضي اللبنانية المحتلة، وتطبيق التزاماتها وفق القرار الأمريكي (1701) سيتراجع.
خاصة أن الاستهداف العسكري الذي وقع في حارة حريك بالضاحية الجنوبية، والذي استهدف الرجل الثاني في حزب الله القائد أبو علي الطبطبائي، جرى - حسب نتنياهو - بضوء أخضر أمريكي، مما يزيد من صعوبة أي رد رسمي من الجانب اللبناني أو المقاوم.
لقد جرّبت إسرائيل سياسة الاغتيالات من قبل، وحققت بعض المكاسب التكتيكية، لكنها على المستوى الاستراتيجي لم تتمكن من الخروج من مأزقها، ولم تستطع القضاء على محور المقاومة أو حسم ساحات الصراع.
المنطقة، والإقليم، مقبلان على تصعيد من عدة جبهات: لبنان، غزة، الضفة الغربية، اليمن، وإيران. هذه معارك تدور حول السيطرة الجيواستراتيجية والطاقة والموارد، وممرات التجارة، وخطوط الإمداد البحري والبري.





