وقف إطلاق النار الذي لا يخرقه إطلاق نار!

أمين الحاج

نوفمبر 26, 2025 - 08:52
وقف إطلاق النار الذي لا يخرقه إطلاق نار!

أمين الحاج

في قاموس القانون الدولي يفترض ان وقف اطلاق النار لحظة تهدئة، يتوقف فيها القتل والدمار، ويفتح الباب لمسار سياسي، لكن ما يجري في غزة ولبنان يقدم تعريفا مختلفا تماما، الهدنة تحولت الى إجراء إداري ينظم القتل، لا يوقفه، وقف إطلاق نار يسمح لجيش الاحتلال بمواصلة القصف والاغتيالات، وواشنطن تعيد صياغته في بيان يدعي انه دفاع عن النفس او رد محدود لا يرتقي الى مستوى الخرق.

 جوهر المشكلة ليس لغويا، بل سلطويا، فمن يملك حق تعريف "الخرق" يملك مفاتيح الدم، في الحروب التقليدية كان وقف اطلاق النار يرتبط بخطوط فاصلة وقوات مراقبة ومرجعيات واضحة، اما اليوم فقد جرى استبدال كل ذلك بمركز تحكم سياسي وعسكري امريكي، يقرر متى يكون قصف منزل في غزة على رؤوس ساكنيه عملا "مشروعا"، ومتى يصبح رد الطرف الاخر "تصعيدا" يهدد الاستقرار. 

 بهذه الصيغة يصبح الاحتلال منفذا داخل منظومة أوسع، لا الطرف الوحيد فيها، فالهدنة هنا ليست التزاما متبادلا، بل منحة من واشنطن لحليفتها، يتيح لها "هامشا” واسعا من القتل تحت سقف كلامي عن التهدئة، بينما يمضي جيش الاحتلال في سياسة تقسيط القتل، واختبار لحدود المسموح، مطمئنا الى ان الراعي الامريكي سيتولى تغليف اي جريمة ببيان دبلوماسي.

 قمة شرم الشيخ لم تعكس دورا اقليميا فاعلا بقدر ما كرست هذا الواقع، الأنظمة التي حضرت أدت دور شاهد زور على اتفاق لم يولد أصلا، وقفت تهز رؤوسها فيما كانت الوقائع تعاد صياغتها أمامها بوقاحة مكشوفة، لم يكن ذلك دبلوماسية ولا واقعية سياسية، بل مشاركة رسمية في مسرحية يعرف الجميع رداءتها، ومع ذلك يصفقون في نهايتها. 

 ما خرج من القمة لم يكن آلية لتطبيق وقف إطلاق النار، بل حفل توقيع على عقد وصاية، قدمت خلاله قرابين الولاء السياسي والأمني مقابل وعود هشة بالاستقرار، وتحولت الأولويات من سؤال كيف يطبق وقف إطلاق النار؟ الى سؤال كيف نمنع الانفجار الشامل؟ مع الابقاء على يد الاحتلال طليقة في غزة ولبنان والاقليم.

 قرار مجلس الأمن الأخير جاء ليعيد صياغة هذه المعادلة في نص رسمي دولي ملزم، ويثبت ان امريكا الراعي الوحيد لمسار ترتيبات سياسية وامنية هي طرف اساسي في صناعتها، الارقام التي كشفت الايام الماضية لا تدع مجالا للشك؛ جسر جوي، الف طائرة شحن، مئة وخمسين شحنة بحرية، مئة وعشرين الف طن من العتاد العسكري، دعم عسكري مباشر يتجاوز سقف عشرين مليار دولار، اكثر من احد عشر مليار دولار من النفقات العسكرية الامريكية المباشرة، لقصف صنعاء وطهران، ومنظومات دفاعية لحماية الاحتلال.

 هذه البنية مجتمعة انتجت نمطا جديدا من الحروب؛ طويلة الامد، منخفضة الكثافة، مغلفة بلغة هدنة لا تشبه واقع الميدان، فلسطينيا ولبنانيا يعني ذلك تعميق التهجير وتفكيك المجتمعات تحت ضغط الخوف والحصار، مع الحرص على إبقاء الوضع دون درجة الانفجار الشامل.

 في المشهد الختامي لهذا العبث، يبدو وقف اطلاق النار اقرب الى مزحة ثقيلة فقدت حتى الكوميديا، فالقصف مستمر ويزداد، والقتل يومي ويتوحش، وصناع البيانات يقسمون ان الهدنة صامدة، والمضحك والمبكي ان الخصم والحكم واحد، يشعل السماء فوق غزة ولبنان، ثم يخرج ليشرح للعالم ان النار ليست نارا، والخرق ليس خرقا، بل مجرد التباس في النص، وهكذا تتحول حياة الناس الى حاشية في بيانات سياسية صماء، ويغدو الدم مادة تفاوض، ولا يبقى للضحايا سوى مشاهدة العالم وهو يتظاهر بعدم رؤية الدخان، حتى صار الصمت شكلا جديدا من اشكال الدبلوماسية، فما قيمة هدنة لا يتوقف فيها شيء، سوى ضمير العالم عن الإحساس؟