حضارتان التقَتا على ضفاف البحر فصنعتا إرثاً إنسانياً خالدً

أكتوبر 17, 2025 - 19:42
أكتوبر 17, 2025 - 19:59
حضارتان التقَتا على ضفاف البحر فصنعتا إرثاً إنسانياً خالدً

حضارتان التقَتا على ضفاف البحر فصنعتا إرثاً إنسانياً خالدً

منذ آلاف السنين نسج الشعبان الفلسطيني واليوناني خيوط علاقة عميقة الجذور جمعت بين التجارة والثقافة والدين والنضال من أجل الحرية.

فمن موانئ غزة ويافا التي رست عليها السفن الإغريقية إلى الأديرة اليونانية في القدس ثم إلى ميادين التضامن العمالي والسياسي الحديث تمتد بين الشعبين جسور من التاريخ والروح والإرث الإنساني المشترك تؤكد أن الصداقة الحقيقية لا تُقاس بالزمن بل بالمواقف والمبادئ.

العلاقة بين الشعبين الفلسطيني واليوناني جذور ضاربة في عمق التاريخ

العلاقة التي تربط بين الشعبين الفلسطيني واليوناني ليست وليدة مرحلة سياسية أو ظرف تضامني معاصر بل هي علاقة تمتد عبر آلاف السنين تداخلت فيها الحضارات والثقافات والمعتقدات لتصوغ معاً تاريخاً طويلاً من التواصل الإنساني والروحي. فمنذ العصور القديمة كان البحر الأبيض المتوسط هو الساحة الكبرى التي التقت فيها الشعوب وتبادلت المعرفة والفكر والسلع وكانت فلسطين واليونان على ضفّتين متقابلتين من هذا البحر الذي لم يفصل بينهما يوماً بل جمعهما دائماً.

العصور القديمة: التجارة، الأساطير، والتبادل الثقافي.

منذ القرن العاشر قبل الميلاد بدأت السفن الإغريقية تجوب سواحل فلسطين التاريخية عكا، يافا، عسقلان، وغزة ضمن رحلاتها التجارية نحو فينيقيا ومصر.

كانت هذه الموانئ الفلسطينية من أهم المحطات في طريق التجارة الإغريقية حيث كان التجار اليونانيون يجلبون معهم الخزف والزيت والنبيذ والمعادن، ويأخذون من فلسطين القمح والزيوت والعطور ومنتجات الشرق.

لكن التبادل لم يكن اقتصادياً فحسب بل كان ثقافياً وفكرياً أيضاً.

فالفكر الإغريقي الذي أرسى أسس الفلسفة والمنطق التقى بروح الشرق الفلسطيني الذي حمل إرثاً دينياً وروحياً عميقاً فكان الناتج تفاعلاً حضارياً أسهم في تشكيل ملامح الثقافة المتوسطية المشتركة.

في تلك الفترة كان الفلسطينيون القدماء يتواصلون مع الإغريق ليس فقط في التجارة بل في الفن والعمارة والرموز الدينية وظهرت آثار هذا التفاعل في كثير من المواقع الأثرية الفلسطينية مثل غزة وبيسان وعكا.

الإسكندر الأكبر والعصر الهيليني: بداية التداخل الحضاري

حين دخل الإسكندر المقدوني بلاد الشام عام 332 قبل الميلاد أصبحت فلسطين جزءاً من العالم الهيليني الذي نشر الثقافة اليونانية شرقاً.

وبعد وفاته تعاقب على حكم فلسطين البطالمة من مصر والسلوقيون من سوريا وكلاهما من أصول يونانية فانتشرت اللغة اليونانية (الكوينه) في الحياة العامة وازدهرت المدن على الطراز الهيليني مثل سكيثوبوليس (بيسان) وبطولوميس (عكا) وغزة الهيلينية.

كانت هذه الفترة نقطة تحول ثقافي إذ امتزجت التقاليد الشرقية بالعقلية اليونانية فظهرت مدارس فلسفية وفكرية جديدة وبرزت مراكز ثقافية تجمع بين الشرق والغرب.

حتى العمارة الفلسطينية في تلك الحقبة حملت الطابع الإغريقي في الأعمدة والميادين والمسرح المفتوح.

العهد الروماني والبيزنطي: فلسطين في قلب العالم اليوناني

مع حلول الحكم الروماني في المنطقة استمرت اللغة والثقافة اليونانية كعنصر رئيسي في الإدارة والتعليم خصوصاً بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة في القرن الرابع الميلادي.

وهنا برزت فلسطين كقلب روحي للعالم المسيحي الشرقي وأصبحت القدس وبيت لحم والناصرة وجهات مقدسة يقصدها الحجاج من جميع أنحاء الإمبراطورية ومن بينهم آلاف اليونانيين الذين أسّسوا أديرة وكنائس لا تزال قائمة حتى اليوم.

ومن أبرز المعالم التي تعكس هذا الارتباط العميق:

 • دير مار سابا في برية القدس الذي أسسه الراهب اليوناني سابا في القرن الخامس الميلادي ويعد من أقدم الأديرة المأهولة في العالم.

 • البطريركية اليونانية الأرثوذكسية في القدس التي تمثل أقدم وجود ديني يوناني خارج اليونان، وما زالت حتى اليوم تدير أهم المواقع المسيحية في فلسطين مثل كنيسة القيامة وكنيسة المهد.

بهذا أصبحت فلسطين مركزاً للروحانية اليونانية وأضحت القدس قبلةً للرهبان والمفكرين والفلاسفة القادمين من أثينا وبيزنطة.

العصور الإسلامية والعثمانية: استمرار التواصل الروحي والثقافي

مع الفتح الإسلامي لفلسطين في القرن السابع الميلادي لم تنقطع العلاقة بين الفلسطينيين واليونانيين.

فقد ضمن العهدة العمرية حرية العبادة للكنائس مما سمح للوجود اليوناني الأرثوذكسي بالاستمرار والازدهار.

في العهد العثماني استمرت هذه الروابط في إطار العلاقات الدينية والتجارية حيث كانت الكنائس والأديرة اليونانية تمتلك أراضي ومؤسسات في القدس وبيت لحم والناصرة.

كما كان العديد من الرهبان اليونانيين يتولّون مهام التعليم والإدارة الكنسية في المدارس المسيحية بفلسطين.

القرن العشرون: تضامن النضال من أجل الحرية

في العصر الحديث ومع نشوء الحركات التحررية في الشرق الأوسط وأوروبا تقاطعت المسيرة الفلسطينية واليونانية مرة أخرى.

فاليونان التي خاضت نضالاً طويلاً ضد الاحتلال العثماني ثم الفاشية رأت في القضية الفلسطينية انعكاساً لتجربتها التاريخية في مقاومة الاستعمار وعبّرت شعوبها ونقاباتها وأحزابها عن تضامن واسع مع الشعب الفلسطيني.

وقد تجسد هذا التضامن في المواقف الرسمية والشعبية اليونانية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي وفي نشاطات اتحاد النقابات العمالي اليوناني (PAME) الذي وقف دائماً إلى جانب العمال الفلسطينيين معبراً عن وحدة المصير الإنساني في وجه الظلم والاستغلال.

إرث مشترك وروح لا تنكسر

العلاقة بين الشعبين الفلسطيني واليوناني ليست مجرد روابط سياسية أو دينية بل هي تاريخ من التفاعل الحضاري والإنساني امتد عبر آلاف السنين.

من موانئ غزة ويافا التي استقبلت السفن الإغريقية إلى الأديرة اليونانية في القدس وصولاً إلى ميادين التضامن العمالي والنضال المعاصر تتواصل هذه العلاقة في مسارٍ يربط الماضي بالحاضر.

فكما وحّد البحر الأبيض المتوسط جغرافياً بين فلسطين واليونان وحّدت القيم الإنسانية بين شعبيهما الحب، الحرية، والكرامة.

هي علاقة لا توثقها المعاهدات بل امتداد طبيعي لتاريخ طويل من التواصل الحضاري ولإيمان مشترك بأن الحرية حق إنساني لا يسقط بالتقادم.

إنها علاقة شعبين يحملان ذاكرة البحر وجراح الأرض وحلم العدالة والسلام يرويها التاريخ ويحرسها الإيمان العميق بأن الشعوب التي تتشارك الوجع والأمل لا يمكن أن تفترق.

إن إرث البحر وروح العدالة منذ فجر التاريخ جمع البحر بين فلسطين واليونان لكنه لم يكن بحراً يفصل بل جسراً يربط بين حضارتين تتقاسمان حب الإنسان وكرامته.

وإذا كان التاريخ قد منح الشعبين ذاكرة مشتركة فإن الحاضر يمنحهما نضالاً مشتركاً أيضاً نضالاً من أجل الحرية ومن أجل عالماً أكثر عدلاً وإنسانية.

تلك هي قصة فلسطين واليونان قصة ضفّتين جمعهما البحر والكرامة والنور.

بقلم : الاء عليان 

الاتحاد العام لعمال فلسطين