الذكاء الاصطناعي المؤثّر على منصات التواصل الإجتماعي
عبد الرحمن الخطيب

منذ أعوام، كانت الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي حكرا على من يمتلك الموهبة، أو الجمال، أو الكاريزما، واليوم تغيّر المشهد كليا، إذ أصبح بإمكان خوارزمية ذكية لا تملك قلبا ولا مشاعر أن تنافس أشهر المؤثرين في العالم، مرحبا بعصر المؤثرين الصناعيين أو ما يُعرف بـ AI Influencers.
انتشرت في الأشهر الأخيرة عشرات القصص عن شخصيات رقمية تُدار بالذكاء الاصطناعي، تحظى بمتابعة مئات الآلاف من البشر، وتُحقق دخلا يفوق ما يجنيه الكثير من صناع المحتوى الحقيقيين، ففي تجربة حديثة تداولها المستخدمون على منصة X، أنشأ مطوّر ذكاء اصطناعي شخصية اسمها أوليفيا في أقل من نصف ساعة، وجعلها صديقة افتراضية تتحدث مع الرجال مقابل اشتراك شهري لا يتجاوز تسعة دولارات، وخلال أسبوع واحد فقط حقق المشروع أكثر من ألف دولار، وبدأت أوليفيا تتحدث مع أكثر من خمسمئة شخص أسبوعياً.
قد يبدو الأمر أشبه بنكتة أو ضرب من الغرابة والخيال، لكن هذه القصة تلخّص تحولا عميقاً في ثقافة الإنترنت، حيث بدأت الحدود بين الإنسان والآلة تتلاشى، وبين الحقيقة والوهم تذوب تدريجياً.
وفقاً لتقرير نشرته وكالة رويترز في عام 2024، تجاوزت قيمة سوق المؤثرين الافتراضيين عالميا مليارا ونصف المليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى خمسة مليارات دولار بحلول عام 2030، وشخصيات مثل ليل ميكويلا، وهي فتاة افتراضية من لوس أنجلوس يتابعها أكثر من مليونين ونصف على إنستغرام، أصبحت رمزا لهذا الجيل الجديد من النجوم الرقميين الذين لا يشيخون، ولا يرتكبون أخطاء علنية، ويمكن التحكم في كل كلمة يقولونها.
هذه الشخصيات ليست مجرد صور جميلة، فخلفها فرق من المبرمجين، والمصممين، وخبراء السوشيال ميديا، الذين يكتبون لها القصص، ويصممون المواقف، ويحددون نبرة الصوت، والردود، وحتى المواقف السياسية أحياناً، والنتيجة جمهور يشعر أنه يتابع إنسانا حقيقيا، بينما يتفاعل في الواقع مع منتج ذكي تم تصميمه بدقة ليجذب الانتباه، ويؤثر في السلوك.
أخطر ما في هذا الاتجاه هو البعد النفسي والعاطفي، ففي دراسة أجراها معهد بيو للأبحاث عام 2024، قال أكثر من سبعة وعشرين في المئة من المستخدمين الشباب إنهم يشعرون براحة أكبر في التحدث مع روبوتات المحادثة مقارنة بالبشر، وفي اليابان أظهر تقرير أن حوالي عشرة في المئة من الشباب بين الثامنة عشرة والثلاثين لديهم علاقة عاطفية رقمية مع شخصية ذكاء اصطناعي أو مؤثرة افتراضية.
هذا التحول لا يعني فقط أن التكنولوجيا باتت جزءا من مشاعرنا اليومية، بل إن مفهوم العلاقات نفسه بدأ يتغير، فعندما يجد الإنسان من يصغي إليه بلا ملل، ويتفاعل معه بحسب مشاعره، حتى لو كان هذا الطرف مجرد خوارزمية، فإننا نقترب من مرحلة يصبح فيها الذكاء الاصطناعي بديلا عن التفاعل الإنساني الحقيقي.
من منظور اجتماعي، يفتح انتشار المؤثرين الافتراضيين بابا واسعا للأسئلة والجدل حول الثقة والمصداقية، فعندما تروج شخصية افتراضية لمنتج تجميلي أو لأسلوب حياة معين، كيف يمكن للجمهور أن يدرك أن ما يراه ليس حقيقيا، وهل سيعرف المراهقون مثلاً أن الجمال الذي يشاهدونه تم توليده بالكامل بالذكاء الاصطناعي
كما أن هذه الظاهرة تضع وسائل الإعلام وصناع المحتوى أمام تحدّ جديد، فكيف يمكن للإنسان أن ينافس خوارزمية لا تنام، ولا تمل، وتنتج محتوى بلا حدود، في المستقبل القريب قد نرى شركات تستبدل حملاتها التسويقية بالكامل بمؤثرين آليين مصممين خصيصاً لاستهداف فئات معينة من الجمهور بدقة شديدة.
لا يمكن إنكار أن هذه الثورة تحمل جانبا من الإبداع، فالمؤثرون الافتراضيون يفتحون الباب أمام أشكال جديدة من التعبير الفني والتفاعل الاجتماعي، يمكنهم تمثيل ثقافات متنوعة، والتحدث بلغات مختلفة، وحتى الدفاع عن قضايا اجتماعية بطريقة خالية من التحيزات الشخصية.
لكن الوجه الآخر أكثر خطورة، ففي عالم تُدار فيه المشاعر والمعتقدات عبر خوارزميات، يصبح من السهل توجيه الرأي العام، أو حتى خلق واقع بديل بالكامل، ومع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنتاج الصور والفيديوهات، قد يصعب على المستخدم العادي التمييز بين المؤثر الحقيقي والنسخة الرقمية منه.
نحن أمام لحظة مفصلية في تطور السوشيال ميديا، فالمؤثرون الافتراضيون ليسوا مجرد ظاهرة عابرة، بل جزء من تحوّل أعمق يقودنا نحو عصر تتقاطع فيه الهوية الرقمية مع الذكاء الاصطناعي بشكل غير مسبوق، وقد يجذبنا بريق أوليفيا وغيرها من الشخصيات المصنوعة، لكن علينا أن نتذكر أن خلف الابتسامة المثالية لا يوجد إنسان حقيقي، بل شبكة من الأكواد المصممة بعناية لتثير مشاعرنا، وتبيعنا الوهم بذكاء.