اتساع الفجوة بين الفقر والغنى

جواد العناني

أكتوبر 19, 2025 - 09:51
اتساع الفجوة بين الفقر والغنى

جواد العناني

منذ مطلع القرن الحالي، نشرت دراسات كثيرة حول توزيع الدخل والثروة في العالم. وقد أثارت تلك الإحصاءات والمعلومات التي لم تقتصر على أساتذة الجامعات ومراكز الإحصاءات، الكثير من الجدل بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أدبيات المنظمات الدولية المعنية بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية أمثال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمات الإقليمية مثل "أسكوا" في منطقة المينا وغيرها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

والسؤال المطروح هنا: هل يمكن الاستمرار بالتعامل مع نظام اقتصادي في ظل الفروقات المتزايدة في الدخل والثروات، والتي إن تركت على حالها فسوف تزداد سوءاً؟ وهل من المعقول أن يبقى الحال على حاله في كل دول العالم ومناطقه المختلفة طالما بقيت الفجوات في مقياسَيْ الدخل والثروة تنهار داخل الدول وفيما بينها؟

ولن يتسع الحديث هنا عن العالم كله، بل سوف يحصر في منطقتنا العربية. وللتمهيد للنقاش لا بد من تقديم فكرة بالإحصاءات عما نتحدث عنه من فوارق. ففي بحث بعنوان "اللامساواة في الدخل في منطقة الشرق الأوسط"، والذي أعدته الباحثة رويده مشرف تناول توزيع الدخل في الدول العربية خلال الفترة 1990 إلى 2021.

ومنه نرى أن صورة التوزيع كانت تسير من سيئ إلى أسوأ. ولكن معدلها على امتداد فترة الدراسة قد تبين أن أغنى 10% يحصلون على 56% من الدخل بينما يحصل أفقر 50% على 10% فقط من الدخل، وتبين من خلال فترة الدراسة البالغة أربعة عقود من الزمن أن أغنى 1% يحصلون على حصة تتراوح بين 15% إلى 24% من الدخل الكلي.

أما من حيث الثروة فقد بيّنت دراسةٌ أجرتها منظمة الأمم المتحدة لغرب آسيا لمنطقة المينا أن الدول الغنية هي الدول النفطية في آسيا، والتي لديها من الثروة ما يساوي 31 ضعف ما لدى الدول التي تسمى "دول الدخل الأدنى".

وفي الدراسة التي نشرتها "إسكوا" العام 2024 بعنوان "الميول غير المتعادلة في تجميع الثروة في المنطقة العربية" تبين أن ثروة أغنى 10% من سكان المنطقة العربية قد ارتفعت من 55% عام 1990 من مجموع ثروة المنطقة إلى 64% في العام 2024. أما ثروة أصحاب أدنى 10% من أصحاب الدخول فقد تراجعت من 10.7% العام 2000 إلى 7.6% فقط العام 2022.

ولو قارنا ارتفاع أرقام التراجع في توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي مع بقية دول العالم، لوجدنا أن العالم العربي كان أسرع في اتجاهاته السلبية رغم أن بعض الدول الغنية عالمياً والمعتبرة متطورة قد أبدت ميولاً مشابهةً مثل معظم الدول الأوروبية باستثناء الدول الإسكندنافية التي تتبع منهجية الرأسمالية الاجتماعية، والتي تظهر عدالة توزيع الدخل والثروة في هذه الدول.

ومن هنا يثور السؤال: هل بإلإمكان تطبيق النموذج الإسكندنافي على كثير من دول العالم؟ والجواب الحاضر لدي هو بالنفي، وذلك لأن الوصول إلى النموذج الإسكندنافي سيتطلب قرارات قاسية جداً ضريبياً وسياسياً وثقافياً. وهذا أمر يحتاج حتى لو لم يكن مصحوباً بالعنف وقتاً طويلاً حتى ينضج ويؤتي أكله.

ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه هنا: هل سنرى ردود فعل في الوطن العربي على حالة سوء التوزيع؟ خاصة أن هنالك شكاوى من عدد من الأمور.

أولها كبر حجم قطاع العام الذي ساهم في كثير من الدول العربية بالنقمة. وذلك لأن الثروة تصبح دولة بين الأثرياء، وخاصة القريبين من الحكم. وتصبح هذه الطبقة الثرية قادرة على الفوز بالعطاءات، والقدرة على تنفيذها والتأثير على آلية صنع القرار وحتى التشريعات التي تقوم تلك الدول بتبنيها لصالح الأغنياء.

وعادة ما يقوم هؤلاء بإبقاء أولياء الأمور مسرورين بإنجازاتهم لأن ما يتوفر لديهم من أسباب القوة والتأثير يمكنهم من الإنجاز، بينما يبقى المنافسون الآخرون خارج دائرة التأثير، ويُتَّهمون بأن فشلهم في التنفيذ عائد لنقص قدراتهم وليس ضعف اتصالاتهم وتأثيرهم على صانعي القرار. وهذه هي الأسباب التي أدت إلى سقوط الأنظمة الشيوعية والاشتراكية المتطرفة في العالم.

ولذلك رأينا كيف تهاوى الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكيف أنشأت الصين نظاماً رأسمالياً يمزج بين الملكية العامة والملكية الخاصة، وسمحت للتنافس. وأما الهند فقد نجحت عن طريق التكنولوجيا والتجارة في تكبير حجم الطبقة المتوسطة بمقدار 250 مليون شخص مما ساهم في زيادة الطلب الفعال من ناحية، ووسع حجم الطبقة المتوسطة التي يرمز حجمها إلى مدى عدالة التوزيع.

ومع هذا فإن الهوة في الهند وحتى في الصين بين أغنى 10% وأفقر 10% تزداد اتساعاً وعمقاً. وهذا ينطبق على عدد كبير من الدول في العالم. والسؤال: هل كان سقوط الأنظمة الشيوعية والاشتراكية سبباً جوهرياً في تعميق اللامساواة بين البشر في متغيرَيْ الدخل والثروة؟ لقد هيمن النظام القوة الوحيدة على العالم (unipolarity) والتي تمثلت في الولايات المتحدة. أم أن حرص الولايات المتحدة في أيام قوة الاتحاد السوفييتي بأن تتبنى سياسات اجتماعية داعية إلى المساواه قد تضاءلت إلى حد كبير بعدما زال ضغط الاتحاد السوفييتي عليها؟ هل كانت أميركا بحاجة إلى عدو قوي ليكون نظامها أكثر إنصافاً وعدلاً في التوزيع؟

يبدو من المؤشرات الاقتصادية أن هذا الاستنتاج صحيح ويتراجع توزيع الدخل والثروة في أمريكا وتركز في طبقة رجال الأعمال حيث رأينا إنجازات كبرى تتحقق في مجالات التكنولوجيا والإسكان والعقار والأسهم والبورصات والمضاربات بكل أنواعها، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية وتراجع البيئة وزيادة الفقر وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب خاصة. ووصلت هذه كلها إلى حدود تنذر بالمخاطر الاجتماعية، والسلوكية، والعنف الفردي والجمعي.

وإذا أمعنا النظر رأينا أن أهمية النقابات العمالية أو منظماتهم قد فقدت الكثير من سطوتها. وأذكر أنني عام 1977 زرت الولايات المتحدة وتعرف إليّ في ذلك الوقت جورج ميني رئيس اتحاد نقابات العمال في الولايات المتحدة وبعض من كبار موظفي الاتحاد. وقد ذهلت بحجم القوة التي يتمتع به الرجل الذي كان حينها 81 عاماً. وكنت أنا في حوالي 32 عاماً وأعمل أميناً عاماً لوزارة العمل الأردنية. وسألته مباشرة عن دوره في إنجاح الرئيس جون كينيدي في انتخابات العام 1960، فأكد لي ذلك. وما كان لأحد أن ينجح إذا عارضه جورج ميني أو زمرته القوية.

أما الآن فإن أحداً لا يسمع عن إضراب أو توقف أو احتجاج من العمال. علماً أن العمال أصحاب الياقات الزرق قد وقفوا أمام المد اليساري في الولايات المتحدة، خاصة إبان فترة الكساد الكبيرة التي سبقت الحرب الكونية الثانية. وعلامة التراجع هي أن توزيع العبء الضريبي صار يميل أكثر نحو الضرائب غير المباشرة والرسوم والغرامات وضرائب المكوس في دول العالم. وقد وجد الأغنياء ألف فرصة للتهرب من دفع الضرائب في الوقت الذي كان يزداد فيه الأغنياء غنى لأن الضريبة تتناقص على مداخيلهم ومكاسبهم الرأسمالية.

ومن هنا، ساهم هذان العنصران (ضعف اتحادات العمال وتراجع الضرائب على الأغنياء) في توسيع الفجوة بين الفقراء والأغنياء. ويزيد الأمر اتضاحاً عندما نتذكر أن مجلة ذا إيكونومست قد نشرت قبل ثلاثين عاماً دراسة تبين أن معدلات الضريبة تصاعدية من حيث التشريع، ولكنها عملياً تناقصية عند التطبيق بسبب قدرة الأغنياء على إيجاد ثغرات في القوانين للنفاذ منها ضريبياً، ولكن كثيراً من التعديلات قد أدخلت على قوانين ضريبة الدخل والأرباح جعلتها أحسن حالاً وعدلاً.

وهناك اقتصاديون وبخاصة مدرسة كينز (Keynes) التي تؤكد أن المبالغة في فرض ضريبة الدخل على الشرائح العليا قد تكون ذات أثر سلبي على كثير من المتغيرات المهمة مثل الاستثمار والقدرة على اجتذابه وعلى الرغبة في التهرب الضريبي والاستفادة من الملاجئ الضريبية الآمنة، والتي صارت تشكل جزءاً أساسياً من النظام الاقتصادي العالمي.

الوطن العربي يعاني في كل أقطاره من سوء توزيع الدخل والثروة. وهذا الأمر لا يمكن أن يبقى على حاله لأنه سوف يخلق تيارات عنف اجتماعية سلبية، وسوف يشجع الاقتصاد غير الرسمي وغير الشرعي، وسوف يفشل في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية المطلوبة لأصحاب الدخول المتدنية. ولذلك، وجب التركيز على هذه الظاهرة الآخذة في التفاقم والتي تتعزز بفعل التطورات في الاقتصاد العالمي.