دول عربية كزغب القطا
جواد العناني

جواد العناني
درسنا قصيدة للشاعر العربي حطان بن المعلى الطائي يقول في مطلعها: ولولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لي منطلق واسع في الأرض ذات الطول والعرض، إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض، نحن العرب عاطفيون ونحب أن نحمي بناتنا ونحمي أولادنا، ونرى أن من واجب الأب أن يذود عن أبنائه إذا تعرضوا للخطر، أو كانت حياتهم مهددة من عدو ظالم لا يراعي لله ذمة، ولا يأخذ في الحسبان أن الذين يُقتَلون أطفال صغار تحرّم كل التشريعات في الدنيا الاقتراب منهم أو تدنيسهم أو قتلهم أو الإساءة إليهم.
ولكننا نحن الآن نواجه معارك كثيرة على حدود كثيرٍ من الدول العربية التي يتعرض فيها أبناء هذه الدول للظلم من الاحتلال البغيض ومن الاستخدام المكثف للأسلحة المحرمة، وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم بالطريقة المناسبة. ولذلك جعلت العدو باستمرار مستنفراً ضدهم غير آبه بما يقال عنه في حقهم. ولذلك تستمر الحكاية بين هجوم كاسح على الدول العربية ليعود البعض ليسعى للدفاع عن الأرواح. فإذا فعل العرب ذلك، رد العدو بكثافة، وقد أخذ زمام المبادرة، واستمر في نهجه غير الأخلاقي بالقتل والذبح، متغاضياً عن كل الأعراف الدولية، كما يقولون، وعن كل ما اتُّفِق عليه، أن من أبسط القواعد وأكثرها إنسانية، الدفاع عن المدنيين وحمايتهم.
ولكن يبدو أن الدم العربي أصبح مستباحاً بحجج واهية، وأنه لا شك أن العدو الإسرائيلي ومن ورائه مؤيدوه، قد وجدوا ضالتهم في التنكيل بهذا المواطن العربي المسكين الذي يجد نفسه منزوع السلاح باستمرار من قبل هؤلاء الأعداء الذين لا يراعون ذمة ولا يعتبرون المواطن العربي إنساناً كامل الإنسانية يستحق أن يدافع عنه.
أمام هذا الواقع المرير وحالة الضعف والانكشاف التي يعاني منها المواطن العربي، لا بد أن نتساءل: لماذا هذا السكوت العربي؟ ولماذا أيضاً هذا التجاهل والتغاضي عما يفعله الأعداء بنا من مخالفات قانونية دولية؟ يستمرأون دماءنا ويستبيحونها وينكّلون بنا.
وهذا أمر لا يجوز أن يمضي بحجة أننا نحن المعتدون، وأن العدو الإسرائيلي هو العدو البريء ويدافع عن النفس كلما أتيحت له الفرصة غير آبه بنا نحن بوصفنا قوماً ولا آبه بنا جنساً ولا أرواحاً بريئة طاهرة كانت في يوم من الأيام نبراساً للبشرية كلها. هذا في النواحي الخلقية والأدبية والثقافية والشعرية والمَلَكات العليا التي تسامى بها العرب عن أقرانهم من شعوب العالم الأخرى.
إذاً، لماذا يسكت العرب وهم يعلمون أنهم على حق إذا دافعوا عن أنفسهم؟ سؤال مهم جداً، ولعل المؤرخين في يوم من الأيام سيكدّون ويتعبون ويفكرون ويحكّون الجباه بحثاً عن جواب مقنع لأنفسهم. كيف يمكن لمواطن عربي أن يرضى بهذا الذل والهوان ويبقى ساكتاً صامتاً يرى المأساة كلها وهي تنزف دماءً غزيرة من كل مكان في جسده، ولا يحرك ساكناً. كيف تفسرون هذا حيث جعلنا حياة أعدائنا سهلة، وجعلناهم قادرين على استمراء دمائنا، وعلى الاعتداء عليها والتطاول على حرمتها؟ هذا كلام لم يكن للعرب أن يقبلوا به لو أنهم في كامل وعيهم.
ولذلك، لا بد من مواجهة هذا السؤال المهم لنا نحن بكوننا أمة عربية خسرت كثيراً من أراضيها، وبعد الاعتداء السافر على حياة أبنائها دون أن تحرك ساكناً لحل هذه المشاكل. ومنذ انتهاء الحكم العثماني، وتطبيق المؤامرة على الثورة العربية الكبرى ونهضتها المباركة، وشرذمة الوطن العربي المجزأ، ونحن العرب نسعى ونبذل كل جهد ممكن من أجل استثمار الفرص التي تتاح لنا لكي نتوحد، فإذ بالمتآمرين علينا والخائفين من صحوتنا عبر ثورتنا، يجهضون كل محاولاتنا، ويخلقون لنا أبطالاً وأصناماً جديدة تمتص عزيمتنا للعودة إلى حالة الألق التي نقدر عليها ونستحقها. والحال أن السيناريوهات او الحوارات البديلة لإطفاء شموعنا تتشابه إلى حد كبير.
فمنذ أن أصدر عميل المخابرات الأميركية "مايلز كوبلاند" كتابه الشهير "لعبة الأمم" عام 1969، بدأت تتبلور لدى المفكرين العرب سيناريوهات التآمر عليهم. ويعود بنا الكتاب إلى ما بعد شهر أيار/ مايو 1948، وهو شهر النكبة للفلسطينيين والعرب، وشهر الاستقلال بالنسبة إلى الحركة الصهيونية لكي يرينا كيف بدأت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة بامتصاص ردود الفعل الغاضبة داخل الوطن العربي.
ويعترف الكتاب بأن الجمهورية السورية قد اختيرت لتقود تلك الحركة بصفتها "قلب العروبة الناهض"، ولكن الانقلاب في سورية، الذي أتى بحسني الزعيم لقيادة تلك الدولة الفتية، لم يَرق إلى المستوى المطلوب منذ أن تسلّم الحكم بدعم أجنبي عام 1949. وأتى إلى الحكم من بعده سامي الحناوي، حتى آلَ إلى أديب الشيشكلي الذي صبّ في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي جام غضبه على خصومه السياسيين وبخاصة الدروز. ولكنه سرعان ما استُبدل وتمكن من الفرار إلى البرازيل حيث قتل هناك من قبل خصومه بني معروف في المنفى اللاتيني.
وانتقلنا إلى مصر من طريق الضباط الأحرار الذين وجدوا المناصرة من حركة الإخوان المسلمين، ويقول بعض المؤرخين مثل الراحل أحمد أمين وابنه الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ الاقتصاد المعروف، إن المصريين في مطالع الخمسينيات بعد ثورة يوليو 1952 في مصر لم يعرفوا هويتهم الأيديولوجية إلا بواحدة من اثنتين: الأولى أنهم فراعنة ومن أقدم الحضارات في التاريخ وأعرقها، والثانية أنهم مسلمون، ووجدوا لذلك متنفساً لهم في حركة "الإخوان المسلمون" حين ولدت.
ولعل أفضل ما قرأت من كتب محايدة عن تطور هذه الحركة منذ حسن البنا ثم حسن الهضيبي وكبار الشخصيات فيها أمثال سيد قطب ومحمد قطب وعبد القادر عودة وغيرهم هو كتاب "الإخوان المسلمون" الذي وضعه الدكتور إسحاق موسى الحسيني من القدس، الذي عمل أستاذا متميزاً في الجامعة الأميركية بالقاهرة حتى وفاته.
لكنّ الشيوعية والاشتراكية اللتين ازدهرتا في أماكن أخرى من العالم، وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 لم تكونا لتقبلا البقاء على الحياد داخل الوطن العربي، فأتت هاتان الحركتان بمفهوم الثورة الشاملة، حيث واجهتا الأنظمة الملكية العربية، وقد نجحتا في أن تحلا مكان النظم الملكية في مصر وتونس والعراق وليبيا، وكثيرون منا يدرك أن هذه الأنظمة قد نجحت في استقطاب أجزاء مهمة من أبناء الوطن العربي لنصرتها، ولكنها جميعها انتهت بطرق مأساوية، وهو ما نشهده الآن بعد ما سُمي بالربيع العربي.
وهكذا تقسَّم الوطن العربي إلى أنظمة ملكية أو أميرية متوارثة، ونظم جمهورية اشتراكية، ونظم أميَل إلى الدينية، ونظم يصعب تحديد هويتها الفكرية والمرجعية. وهذا هو حالنا الآن، والسؤال الذي نقف أمامه حائرين هو: "هل يمكن وصف الأنظمة العربية بأنها أنظمة مالكة لرأس المال، وجامعة له من أجل المشروعات التنموية؟ وهل هذا هو النموذج الذي سيبقى معنا خلال السنوات القادمة، ولنقل العشرين سنة القادمة؟".
ما يمكن أن نستنتجه من دراسة أمواج التغيير في الوطن العربي في آخر ثمانين سنة، أن الأنظمة الملكية قد تفوقت على الأنظمة الأخرى في عدد من المتغيرات الأساسية، ولا سيما التفوق الاقتصادي، وكذلك في القدرة على الاستجابة للتغيرات، وثالثاً أنها أقل عنفاً وحدّة ضد المعارضين لها، ما يمكّنها في نهاية الأمر من الوصول إلى تسوية معهم. وهكذا فإننا نرى أن أهم نموذج مستقبلي يقف أمام الدول العربية هو النموذج الملكي المتجاوب مع الظروف، وأحياناً المستبق لها، والتكيف معها قبل أن تصل إلى ذروة الضغط التي تكون مرشحة للوصول إليها، وأنها أقدر من غيرها على التفاعل مع شعوبها.
وسنرى زيادة في الأنظمة العربية التي يمكن تسميتها بالأنظمة الجمولكية أو الأنظمة التي يحكمها رئيس منتخب بأجندة وأسلوب ملكيين، أو تبقى ملكية أو أميرية متوارثة صرفة. وقد رأينا نجاح تلك التجربة، ولكن بكلفة باهظة في سورية (نظام أسرة الأسد)، ومحاولات لم تكتمل في مصر (أسرة مبارك)، وفي ليبيا (أسرة القذافي). ولكن هذه التكهنات أو الحوارات ستحتاج إلى عقدين حتى تتبلور، وأنا أميل إليها وأكثر اعتقاداً بنجاعتها واستمرارها.