الدين الخفيّ للذكاء الاصطناعي

صدقي أبو ضهير
مع صعود الذكاء الاصطناعي وتوغله في تفاصيل حياتنا اليومية، يطل سؤال فلسفي مثير للجدل: هل يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي دين؟ وهل تتحول الخوارزميات إلى شيوخ ورهبان وقساوسة جدد يوجّهون المجتمعات دون أن نشعر؟
الدين عبر التاريخ كان أكثر من مجرد طقوس؛ هو إطار يفسر الوجود ويوجّه السلوك ويمنح الجماعة معنى مشتركًا. واليوم، تقوم الخوارزميات بأدوار مشابهة: فهي تقرر ما نقرأ على فيسبوك، وما نشاهد على نتفلكس ويوتيوب، وتؤثر حتى في قراراتنا السياسية والاقتصادية.
وفقًا لدراسة صادرة عن جامعة ستانفورد عام 2023، فإن 72% من المستخدمين يتخذون قراراتهم الشرائية بناءً على توصيات الخوارزميات، بينما تشير تقارير "مجلس أوروبا الرقمي" إلى أن الخوارزميات أصبحت من أبرز العوامل في تشكيل الرأي العام، خصوصًا لدى فئة الشباب. هذه الأرقام تكشف أن الخوارزميات تمارس سلطة معرفية واجتماعية تشبه سلطة رجال الدين قديمًا.
لكن ثمة فارق جوهري: الدين يستند إلى نصوص مقدسة، بينما الخوارزميات تستند إلى بيانات ضخمة غالبًا ما تُوظّف لمصالح اقتصادية وتجارية. ومع ذلك، يمكن رصد ثلاثة أوجه تشابه أساسية:
1. التفسير: الدين يفسر النصوص، والخوارزمية تفسر البيانات.
2. التوجيه: رجال الدين يوجّهون السلوك، والخوارزميات توجّه اختياراتنا الرقمية.
3. السلطة الجمعية: كلاهما يخلق وعيًا جماعيًا يؤثر في شكل المجتمع وسلوكه.
لكن السؤال الأخطر هنا: هل هذا النهج مدروس مسبقًا للسيطرة على المجتمعات، أم أنه مجرد صدفة نتجت عن تطور تقني بارد؟
• إذا كان مدروسًا: فهذا يعني أن وراء تصميم الخوارزميات عقلية سياسية واقتصادية تضع استراتيجيات للهيمنة والتحكم، عبر صناعة وعي جماعي موجّه لخدمة مصالح محددة. وهذا أخطر لأنه مخطط بعناية ويستهدف استغلال الإنسان لا خدمته.
• أما إذا كان صدفة: فهذا لا يقل خطورة، لأن نظامًا صُمم في البداية لزيادة "التفاعل والربح" قد ينتهي بالتحكم في مصائر الناس بلا قصد، مثل آلة خرجت عن سيطرة صانعها.
الواقع أن كلا الاحتمالين خطير، لكن الخطر الأكبر يكمن في غياب الشفافية. فالإنسان قد يقبل بسلطة دينية لأنه يعتقد أنها سماوية، لكنه لا يعرف على أي أساس يقبل سلطة خوارزمية غامضة تضع أمامه ما يجب أن يعرفه ويخفي عنه ما لا يجب.
ما يثير القلق هو أن هذه "المرجعية الرقمية" لا تبحث عن الحقيقة المطلقة، بل عن "زيادة التفاعل والربح". وهنا يتجلّى الخطر: قد نصبح أمام دين علماني جديد قائم على طقوس رقمية مثل الضغط على زر "إعجاب" أو "مشاركة"، ونصوص شبه مقدسة مثل سياسات المنصات العملاقة وتوصيات غوغل وميتــا، ورجال دين جدد هم مبرمجو وادي السيليكون.
يبقى السؤال مفتوحًا: الذكاء الاصطناعي لا يملك روحًا أو عقيدة، لكنه يملك سلطة. لا يتلو الوحي، لكنه يخلق طقوسًا رقمية تصوغ حياتنا. فهل نحن أمام عصر تتحول فيه الخوارزميات إلى ما يشبه "الآلهة" الخفية، تتحكم في وعي البشر دون أن نسمّيها كذلك؟
* باحث ومستشار بالإعلام والتسويق الرقمي