سفر آلام غزة.. نصوص النار والرماد

يونيو 30, 2025 - 09:14
سفر آلام غزة.. نصوص النار والرماد

نبهان خريشة

(1)  احتراق الفراشات
الفراشات تستخدم أضواء القمر والنجوم كدليل ملاحي أثناء الطيران ليلاً، ولكنها عندما تواجه مصدر ضوء من صنع الإنسان كالمصابيح أو النار، فإن ذلك يخدع دليل ملاحتها ما يتسبب باصابتها بخلل في التكيف مع تلك الأضواء .
فراشةٌ صغيرة كانت تحلّق بخفة قلبها في سماء غزة، حيث الدخان يحجب الزرقة. كانت تبحث عن زهرة رحيقها يُنسيها مرارة الرماد العالق في الهواء. كانت ترفرف بين الأطلال، تمرّ على حدائق ماتت واقفة، وعلى شرفات فارغة من الضحكات. لم تجد زهرة، ولا حتى ورقة خضراء تعانقها ولو للحظة.
وهي تائهة في حيرتها، أبصرت من بعيد نورًا... نورًا لامعًا يخترق العتمة مثل وعدٍ ساذج. والفراش بطبعه مولع بالنور، لا يفرّق بين شعاع شمسيّ دافئ وبين لهب قاتل. اقتربت منه، ظنّت أن الزهرة التي تحلم بها تنتظر هناك، عند منبع الضوء.
لكن ما أن اقتربت حتى اكتشفت، متأخرة، أن النور لم يكن إلا نارًا تلتهم جسد طفلٍ صغير، كان قبل قليل يبحث عن أخيه الذي ابتلعته أنقاض منزلهما، متحديا القصف. النار تشتعل في جسده، والنور ينبعث من احتراقه.
ورغم أن الفراشة لم تفهم تمامًا معنى النار، شعرت بحرارتها تحيط بها، بجناحيها الصغيرين. وقبل أن تحترق، أطلقت صرخة لم تكن صوتًا بل موجة من الرفرفة، نداء استغاثة صامت، ارتجفت له الأجنحة في أنحاء غزة.
لبّت النداء آلاف الفراشات من كافة الجهات، كلهن حلمن بالنور، كلهن سعين خلفه، كلهن صدقن أنه يحمل خلاصًا أو زهرةً أو حياة.
لكن لم تعرف أي منهن أن ذاك النور كان نارًا.
فاحترقن جميعًا.
وفي اليوم التالي، وجد الأخ الأصغر للطفل المحترق جدارًا مغطّى بأجنحة رمادية محترقة... وقال لوالدته:
"انظري، حتى الفراشات جاءت تشيّع أخي."

(2)  داود وجالوت
في رواية لم تُكتب بعد في النسخة المعدّلة من "التاريخ المقدس"، يقف داود الفلسطيني، نحيلًا، حافي القدمين، يحمل في يده مقلاعًا ورغيفًا ناشفًا من مساعدات الأمم المتحدة. أما جالوت الإسرائيلي، يمتطي صهوة دبابة "ميركافا"، محاطًا بطائرات  F-35، وتغطية إعلامية تصفه بأنه "يواجه خطرًا وجوديًا من طفل يرمي الحصى".
داود لم ينتصر، صحيح. لم يتمكن من شق رأس جالوت، ولا أسقط طائراته، ولم يمنع جرافاته من هدم البيوت والخيام وحتى اقتلاع زيتونه، لكن الأغرب أن جالوت لم ينتصر أيضًا. فقد جرّب كل شيء: القنابل الذكية والغبية، والدبابات والمدرعات، والقذائف بكافة الأحجام، والحصار، وحتى البيانات الدولية التي تبدأ بكلمة "نشعر بالقلق الشديد". ومع ذلك، داود ما زال حيًّا. ما زال يرشق، ويكتب على الجدران، ويغني للعودة، ويتزوّج، وينجب أطفالًا يسمّونهم "صابر" و"حرية".
جالوت متوتر. كيف لمقلاع أن يستمر؟! كيف لغزة أن لا تنهار رغم أنها تنهار يوميًا؟! داود لم يهزم جالوت، لكنه جعله يتعرّق تحت دروعه. جعله ينام وهو يفكر كيف يمكن لمليوني شخص بلا كهرباء ولا ماء أو دواء أو طعام أن يظلوا على قيد الصبر.
لم ينتصر جالوت، لكنه اكتشف أن هناك ما هو أسوأ من الموت: أن تظل تطلق النار على من لا يموت، على من يصرّ على العيش ولو بين الركام، على من يذهب إلى البحر الملوث ليتنفس ويشحن طاقته بالكبرياء.
في النهاية، لم يكن النصر هدف داود. كان فقط يريد أن يبقى، أن يُظهر للعالم أن "قصة داود وجالوت" ليست مجرد معركة، بل اختبارٌ مستمر لكيف يستطيع الضعيف أن يظلّ واقفًا دون ان يركع؟!!
يبدو أنه يستطيع.!!

 (3) جائع ميت أفضل جائع حيّ
في إنجازٍ إنساني غير مسبوق، تواصل إسرائيل دورها الرائد في الجمع بين الموت والإغاثة، فبينما تقصف بيوت الفلسطينيين وتقطع عنهم الطعام والدواء، لا تنسى أن ترسل شاحنات "المساعدات الإنسانية" التي تمر بالقرب من مدنهم وبلداتهم المدمرة .
وفي مشهدٍ يمزج بين الدراما والتشويق، تجمّع مئات الفلسطينيين الباحثين عن كيس طحين أو علبة سردين – لا فرق – لتلتقطهم مناظير بنادق القناصة، وتختار من منهم "يستحق" المساعدة، أو بالأحرى: من يُقصى من قائمة الجياع بالرصاص.
اللافت في الحدث أن المساعدات نفسها مُغطاة بطبقة رقيقة من دماء الضحايا، في توازنٍ بديع بين الحديد والحنان، بين فوهة البندقية وقنينة الزيت.
لسان حال جيش الاحتلال يقول: "نحن لا نقتل الفلسطينيين عبثًا، بل نخلق فراغًا غذائيًا أولاً، ثم نملؤه بمساعداتنا الكريمة. إنها دورة اقتصادية مكتملة!"
ويواصل:
"نحن نؤمن بمبدأ: إذا لم يمت الفلسطيني جوعًا، فليمت بالرصاص في طابور المساعدات."
وفي تصريح لمسؤول في منظمة إغاثة غزة الأمريكية، عبّر به عن امتنانه لإسرائيل، قائلاً:
"لم نعد نحتاج لفرز الأحياء عن الأموات، لأن رصاص البنادق يقوم بذلك مسبقًا."
في النهاية، تبقى إسرائيل وفية لعقيدتها:
جائع ميت أفضل من جائع حيّ!