حَجَرُ المفتاح في مواجهة هَراء الرمز المُشَفَّر
بقلم: أحمد دخيل

حَجَرُ المفتاح في مواجهة هَراء الرمز المُشَفَّر
بقلم: أحمد دخيل
أنا لاجئ فلسطيني أعيش في مخيم جرمانا على أطراف دمشق. هنا، في أزقة ضيقة يغمرها انقطاع الكهرباء والفقر، تتكدّس الحكايات كما تتكدّس الأجساد. على ضوء هاتفي القديم تابعت، من بعيد، جلسات الأمم المتحدة في نيويورك. آلاف الأميال بين المخيم والقاعة، لكن المسافة انكمشت فجأة: كأنني كنت هناك، جالسًا بين المقاعد.
الرئيس الفلسطيني لم يُسمح له بالسفر. حضر عبر شاشة كبيرة. كان صوته مبحوحًا نعم. لكنه الأكثر صدقًا ، وعلى صدره عُلّق المفتاح.
مفتاح العودة، الرمز الذي ورثناه كما نرث الأرض في الغياب.
من مخيم جرمانا شعرت أن المفتاح المعلق على بدلته يعلَّق أيضًا على صدورنا جميعًا، في الشتات.
في الجهة المقابلة، وقف بنيامين نتنياهو بجسده على المنبر. أراد أن يلفت الأنظار برمز "QR" علقه على بدلته الأنيقة. رمز رقمي بارد، يحاول أن يجرّ العالم إلى موقع إلكتروني يروي روايته.
لكنه بدا أقرب إلى إعلان تجاري باهت منه إلى خطاب سياسي.
المشهد كان فاضحًا: مفتاح على شاشة بعيدة يفتح تاريخًا حقيقيًا، ورمز مشفّر على بدلة لامعة يقود إلى فراغ. حضور افتراضي صادق يقابله حضور جسدي زائف. رئيس ممنوع من السفر يخاطب العالم من خلف شاشة، ورئيس آخر يصرخ في قاعة تتساقط كراسيها فراغًا من حوله.
حين بدأ المندوبون يغادرون القاعة واحدًا تلو الآخر، سمعت الصمت يتكلم. كانوا يقولون له بأقدامهم: "أنت معزول". في تلك اللحظة تذكرت جدي المختار وهو يحتفظ بسجل الولادات القديم والقواشين، في صندوقه الحديدي.
ذلك الدفتر و ثبوتيات ملكية الأرض و مفاتيح دارنا هناك، التي رافقت مختار الزوق التحتاني، شمال فلسطين، إلى منافي اللجوء، أدركت أن مفتاح العودة الذي ظهر في نيويورك لم يكن مجرد إكسسوار على بدلة الرئيس، بل ذاكرة مشتركة بين ملايين اللاجئين في المخيمات، من جرمانا إلى عين الحلوة.
انهمرت دموعي. لم تكن دموع ضعف، بل دموع يقين. يقين بأن الرمز الذي نحمله في قلوبنا أثقل من كل تقنياتهم، وأصدق من كل دعاياتهم.
من غرفة صغيرة في مخيم محاصر، شعرت أنني أشارك في معركة رمزية كبرى: مفتاح يواجه رمزًا مشفّرًا.
لقد ربحنا. لأن الحق لا يحتاج إلى منبر كي يثبت وجوده. يكفي أن يطلّ عبر شاشة ليفضح زيف الجسد الماثل أمام الميكروفون. ربحنا لأن المفتاح سيظل، مهما طال الزمن، يفتح أبواب العودة.