البناء الاستيطاني في منطقة “E1” إجهاز على فكرة الدولة الفلسطينية

نبهان خريشة
قرار وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل أيضًا منصب الوزير في وزارة الدفاع والمسؤول عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية، بالمضي قدمًا في خطة بناء 3400 وحدة استيطانية جديدة في المنطقة المعروفة باسم E1، الواقعة بين القدس الشرقية وأريحا بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم، ليس مجرد خطوة في إطار التوسع العمراني للمستوطنات، بل هو قرار استراتيجي عميق الأثر، يحمل أبعادًا سياسية وديمغرافية وأمنية تمس جوهر الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، ومستقبل حل الدولتين، والتواصل الجغرافي للفلسطينيين في الضفة الغربية. هذه المنطقة، التي تمتد على مساحة شاسعة شرق القدس، تُعتبر من أكثر النقاط حساسية في ملف الاستيطان، إذ إن أي تطوير استيطاني فيها سيؤدي فعليًا إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ما يقطع التواصل الجغرافي بين المدن الفلسطينية ويجعل من أي دولة فلسطينية مستقبلية كيانًا مجزأً ومفتتًا وغير قابل للحياة.
من الناحية السياسية، فإن البناء في منطقة E1 ليس وليد اللحظة، بل هو جزء من مخططات إسرائيلية قديمة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا إلى فترة حكومة إسحق رابين، الذي وإن كان قد جمّد المشروع تحت الضغط الأمريكي والدولي، لم يلغِه من الأساس. الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعاملت مع المنطقة باعتبارها امتدادًا استراتيجيًا لمستوطنة معاليه أدوميم، التي تُعد من أكبر الكتل الاستيطانية في الضفة، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 40 ألف مستوطن. بضم هذه المنطقة إلى نطاق البناء الاستيطاني، تكون إسرائيل قد أمنت تواصلاً عمرانياً وجغرافياً بين القدس الشرقية والمستوطنات المحيطة بها شرقًا، بما يرسخ السيطرة الإسرائيلية على محيط القدس ويمنع أي إمكانية لاعتبارها عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية. هذا البناء يتناقض بشكل صارخ مع الموقف الدولي، بما في ذلك مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذين يعتبرون أن البناء في E1 يشكل "خطًا أحمر" نظراً لتأثيره المدمر على إمكانية التوصل إلى حل الدولتين.
أما من الناحية الديمغرافية، فإن المشروع سيؤدي إلى تغيير جذري في ميزان السكان في المنطقة الواقعة بين القدس وأريحا، حيث يقطن آلاف الفلسطينيين في بلدات وقرى مثل العيزرية وأبو ديس والطور وعناتا، إضافة إلى التجمعات البدوية مثل الخان الأحمر. هذه المناطق تعاني أصلًا من تضييق شديد في البناء وتقييد الوصول إلى الموارد، ويأتي المشروع الاستيطاني ليزيد الخناق عليها، إذ سيُحاصر الفلسطينيون بين كتل إسمنتية استيطانية من الغرب والشرق والشمال والجنوب. وبإغلاق المنطقة E1 بالمستوطنات، ستجد التجمعات البدوية نفسها مهددة بالاقتلاع القسري، في إطار سياسة أوسع تهدف إلى تفريغ المناطق الاستراتيجية من سكانها الأصليين، وتوسيع الرقعة الجغرافية الخاضعة للمستوطنين الإسرائيليين.
من الزاوية الجغرافية والاستراتيجية، يكتسب الموقع أهمية قصوى. فهو يشكل نقطة الربط بين القدس الشرقية ووادي الأردن، ويعتبر ممرًا طبيعيًا للطريق السريع رقم 1 الذي يربط الساحل الفلسطيني بالحدود الشرقية. السيطرة الإسرائيلية على هذه المنطقة، من خلال بناء آلاف الوحدات السكنية وربطها بشبكة طرق مخصصة للمستوطنين، تعني عمليًا السيطرة على حركة الفلسطينيين وعزلهم في كانتونات منفصلة، بحيث يصبح الانتقال من شمال الضفة إلى جنوبها أمرًا يتطلب المرور عبر حواجز وشوارع التفافية يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي. هذا الواقع يقضي على فكرة التواصل الجغرافي والسيادة المكانية التي تُعتبر من أبسط مقومات أي كيان سياسي مستقل.
البعد الأمني لا يقل أهمية في هذه المعادلة. بالنسبة لإسرائيل، فإن السيطرة على المنطقة E1 تعني خلق "حزام أمني" حول القدس الكبرى، وحماية المستوطنين في معاليه أدوميم والمستوطنات المجاورة من أي نشاط فلسطيني احتجاجي. لكن هذا المنطق الأمني الإسرائيلي، الذي يتجاهل حقوق الفلسطينيين، يأتي على حساب دفع المزيد من الشباب الفلسطيني نحو الإحباط واليأس، وهو ما يزيد احتمالات الانفجار الأمني في المنطقة. فالمشاريع الاستيطانية المكثفة، التي تتم دون أي اعتراف بالحقوق الفلسطينية، تغذي شعورًا بأن عملية السلام انتهت وأن الحلول السياسية لم تعد ممكنة، ما يفتح المجال أمام سيناريوهات التصعيد.
كما أن القرار أيضًا يأتي في سياق سياسي داخلي إسرائيلي متوتر، حيث يسعى سموتريتش، وهو من أكثر السياسيين اليمينيين تطرفًا، إلى تعزيز قاعدته الانتخابية بين المستوطنين والتيار القومي الديني، عبر تقديم إنجازات ملموسة في ملف الاستيطان. هذه الخطوة تحمل أيضًا رسالة تحدٍ للمجتمع الدولي، خصوصًا في ظل الانتقادات الأمريكية (السابقة لإدارة ترامب) والأوروبية لممارسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة. وبالمضي قدمًا في البناء في E1، يسعى سموتريتش إلى فرض وقائع على الأرض تجعل أي حكومة إسرائيلية مستقبلية مضطرة للتعامل مع أمر واقع يصعب التراجع عنه.
بالنسبة للفلسطينيين، فإن هذا القرار يمثل تهديدًا مباشرًا لمشروعهم الوطني. فالاستيطان في E1 لا يعني فقط فقدان المزيد من الأرض، بل يعني انهيار حلم الدولة المتواصلة جغرافيًا. فمعاليه أدوميم ومحيطها ستتحول إلى "حاجز استيطاني" يقسم الضفة الغربية إلى قسمين منفصلين، ما يفرض على الفلسطينيين التفكير في إدارة شؤونهم ضمن جزر سكانية متباعدة. هذه النتيجة تتناقض مع كل القرارات الدولية، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 2334 الذي أكد عدم شرعية المستوطنات واعتبرها عقبة أمام السلام.
رد الفعل الفلسطيني المتوقع على هذه الخطوة سيتراوح بين المسار الدبلوماسي ومحاولة حشد المجتمع الدولي لوقف المشروع، والمسار الشعبي الميداني عبر تنظيم احتجاجات ومسيرات في المناطق المهددة. لكن التجربة تشير إلى أن المواقف الدولية، مهما كانت قوية في بياناتها، لم تكن قادرة في الماضي على وقف مشاريع استيطانية إسرائيلية مشابهة، ما يثير تساؤلات جدية حول فعالية الأدوات المتاحة للفلسطينيين لمواجهة هذا النوع من السياسات.
تداعيات القرار تمتد أيضًا إلى الإطار الإقليمي، حيث أن الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل قد تجد نفسها في موقف حرج، إذ إن استمرار الاستيطان بهذا الشكل يضعها أمام سؤال جوهري حول جدوى رهاناتها على أن العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل ستؤدي إلى تغيير في سياساتها تجاه الفلسطينيين. كما أن الخطوة قد تعزز موقف الأطراف العربية الرافضة للتطبيع، وتزيد الضغوط على الدول التي تفكر في السير في هذا المسار.
في النهاية، يمكن القول إن قرار بناء 3400 وحدة استيطانية في منطقة E1 ليس قرارًا عابرًا أو معزولاً، بل هو جزء من رؤية إسرائيلية أوسع لفرض السيطرة الكاملة على القدس ومحيطها، وقطع الطريق أمام أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل جغرافي. هذه الخطوة، إذا ما اكتملت، ستعيد رسم الخريطة الجغرافية والسياسية للضفة الغربية بشكل يجعل من الصعب تخيل أي تسوية سياسية عادلة في المستقبل. وفي ظل غياب رد فعل دولي حازم، قد تجد إسرائيل نفسها ماضية في تكريس واقع الفصل والضم، بينما يبقى الفلسطينيون يواجهون مزيدًا من التفتت الجغرافي والضغط الديمغرافي، وهو مسار لا يهدد فقط مستقبلهم الوطني، بل يهدد أيضًا استقرار المنطقة برمتها.