من رقعة الشطرنج إلى صراع الحضارات.. نحن في قلب الجغرافيا السياسية الجديدة

مروان إميل طوباسي
في قلب الصراع الدولي الجاري، تعود رؤية زبيغنيو بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" إلى الواجهة، حيث تتحرك القوى الغربية اليوم لتثبيت نفوذها في وسط أوراسيا، وهي منطقة جغرافية تضم عدداً من الدول بين أوروبا وآسيا، لهدف السيطرة عليها ومحاصرة روسيا من الغرب ومن ثم من الجنوب الشرقي عبر إسقاط إيران. وهي أي أوراسيا تشكل مسرح الجغرافيا السياسية الأكثر حساسية بالعالم، فمن يسيطر عليها يسيطر على أوروبا ومن ثم على العالم وفق وصف بريجينسكي في كتابه ونظرياته السياسية. من الحرب بالوكالة في أوكرانيا إلى حرب الإبادة والتطهير العرقي في فلسطين والتصعيد العدواني ضد إيران وقبل ذلك بحرب لبنان وتنفيذ غزوة سوريا، نشهد اندفاعة جديدة للغرب لاحتواء قوى الشرق الصاعدة، عبر أدوات مختلفة أحدها وأكثرها خطورة هي إسرائيل ككيان استعمار استيطاني توسعي الى جانب صعود قوى اليمين الفاشية الجديدة بأوروبا.
إسرائيل لم تعد فقط قاعدة عسكرية متقدمة للغرب، بل تحولت إلى ما يشبه "السدّ الحضاري" الذي يُحاط به الشرق لمنع تشكّله كمركز قوة مستقل، او كخط الدفاع الأول عن حضارة الغرب الاستعمارية. في الخطاب السياسي الغربي وخاصة الأوروبي، يبدو الاصطفاف خلف إسرائيل وكأنه دفاع عن "الحضارة الغربية " ضد تهديدات إيرانية أو روسية أو صينية، ما يعيد تكرار المنطق التاريخي للاستعمار بوجه حديث.
وفي هذا السياق ، تبرز مجدداً نظرية "صراع الحضارات" لصموئيل هنتنغتون، الذي اعتبر أن الصراعات المستقبلية ستكون بين حضارات متباينة، لا بين دول قومية فحسب. فوفقاً لهنتنغتون ، فإن الحضارة الإسلامية والكونفوشية والأرثوذكسية المشرقية هم الأكثر تحدياً للهيمنة الغربية. ويمكننا أن نقرأ اندفاع الغرب ضد إيران كما ضد روسيا، ليس فقط بوصفهما خصماً سياسياً، بل كرمز حضاري مختلف، يهدد بنموذج سيادي لا يخضع للمعايير الليبرالية الغربية، وهو ما يعيد رسم خطوط التماس بين الكتلة الغربية ومحور الشرق الصاعد، وهو ما ينطبق الى حد ما أيضا على طبيعة علاقة التناقض مع الصين الى جانب الاعتبارات الاقتصادية ومحاولات السيطرة على بحر الصين وتايوان ولمحددات عسكرية بالمنطقة.
اللافت أن "الترويكا الأوروبية" بريطانيا وفرنسا وألمانيا، التي حافظت سابقا على خطوط تفاوض مع طهران، عاودت وانزلقت الآن إلى الموقف الأمريكي، الداعم لإسرائيل عسكرياً واستخباراتياً. هذا التحول لا يمكن عزله عن رواسب العداء الحضاري التاريخي والثقافي الذي تمثل بحملات الفرنجة سابقاً للإسلام والمسيحية المشرقية العربية التي انطلقت من هذه الأرض ولاحقا شكلت إحدى مكونات الحضارة العربية الى جانب الإسلام، بل وعن رؤية ضيقة تجعل من أي مشروع استقلالي غير تابع للغرب تهديداً يجب تطويقه، بما في ذلك مصر وتركيا على وجه التحديد.
في المقابل، لا تتحرك إيران وحدها، فهي تمثل الآن عقدة ارتكاز لتحالف أوسع يسعى إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، تشكّل روسيا والصين أعمدته الأساسية اضافة الى دول تحالف شنغهاي ودول مجموعة البريكس. الصراع هنا ليس على أسلحة أو موانئ أو خطوط تجارية او حول اقتصاد الطاقة فقط على اهمية ما تشكله من مكونات الصراع، بل على شكل النظام العالمي القادم، فكلما تعمق الحصار الغربي، ازدادت صلابة التحالف الشرقي.
استراتيجية إيران لا تعتمد على المواجهة المباشرة فقط، بل على الصبر الاستراتيجي والتدرج واستنزاف خصومها ببطء، كما فعلت سابقا في حروبها رغم الخسائر الفادحة ومآسي الحرب التي تورطت بها العراق سابقا. وهذا ما يجعل المغامرة الإسرائيلية محفوفة بالمخاطر والمغامرة، خاصة مع التفاوت بالتعداد السكاني والمساحة الجغرافية وطبيعية التضاريس والجذور الحضارية بين إسرائيل وإيران.
داخليا، يواجه نتنياهو نظاما سياسيا مأزوما، وتململاً شعبيا خاصة مع استمرار عدوان الإبادة على غزة، وتآكلاً في معادلة الردع نتيجة امتلاك إيران قوة ضاربة صاروخية متطورة، اضافة الى الالتفاف الشعبي بإيران حول قضية الوطن والمعركة، والذي تمثل قبل يومين في بيان الحزب الشيوعي الإيراني رغم خلافاته العميقة مع النظام .
فالحرب قد توفر لنتتياهو مخرجا تكتيكيا، لكنها في الحقيقة تُقربه من لحظة الحساب والعقاب وتآكل النظام الذي بُني على الاستيطان والفوقية العنصرية واضطهاد شعباً آخر. إسرائيل، كما تشير معطيات الداخل والخارج، لا تملك رفاهية الدخول في حرب أستنزاف طويلة، خصوصا في ظل تراجع قدرة الولايات المتحدة على التدخل المباشر او ترددها، او الخوف فيما قد يؤدي تدخلها من توسع للصراع الدولي قد يؤدي الى المجهول، رغم رغبة ترامب بذلك لقناعات عقائدية واقتصادية واهية .
الإشارات الصادرة من واشنط ، لا سيما من ترامب، لا توحي بوضوح تصريحاته بل بتردد واضح وتغير بالمواقف بما يعكس التركيب النفسي لشخصيته والخلافات بالأوساط الأمريكية نفسها. فـ"السلام القريب" الذي تحدّث عنه بعد مكالمته مع بوتين، لا يعكس فقط ميلًا نحو الحوار، بل إدراكا بأن حروب الشرق الأوسط لم تعد تحظى بتأييد الداخل الأمريكي والكونغرس. فترامب، الطامح لصفقات وفرض استسلام الغير ومنهم نحن الفلسطينيون كما الإيرانون بل وكل شعوب الإقليم، يعرف أن الرأي العام الأمريكي لا يرغب بتكرار سيناريوهات العراق وأفغانستان وتبعات الحروب خارج الحدود البعيدة، حيث ان حرب مآسي فيتنام وكوريا والعراق ما زالت بالإذهان الأمريكية.
اليوم ، تُخاض الحرب في سياق جديد تماما، شرق يصعد، وغرب استعماري يقاتل للحفاظ على امتيازاته وهيمنته، ودول عربية مأزومة لا تملك قراراً مستقلاً. لكن الجديد هو أن إسرائيل، التي طالما حظيت بدعم غير مشروط، بدأت تواجه ممانعة خفية من شركاء سابقين، وخسائر فادحة بكل القطاعات يُمنع الاعلام من الحديث عنها نتيجة الضربات الصاروخية، وتراجعا في قدرتها على فرض معادلاتها كما بالسابق.
اليوم ، لسنا أمام حرب تقليدية، فما يجري هو فصل جديد من صراع طويل بين مشروعين متناقضين، مشروع إمبريالي بقيادة الولايات المتحدة يحاول إنقاذ نظام الهيمنة الغربي المتآكل ونظامه الأقتصادي ، وآخر سيادي تعددي يسعى إلى إعادة تعريف موازين القوى العالمية يكون اكثر عدالة للشعوب وبالسيادة وحق تقرير المصير لها ووحدة اراضي دولها وبالمقدمة منها شعبنا الفلسطيني الذي يقف اليوم في قلب هذه التحولات من الجغرافيا السياسية التي لم تضح معالمها بعد.