‏ حين تتحول الساحات إلى منصات للنضال الثقافي// من أوسلو إلى "فدائي" النشيد الوطني الفلسطيني يخترق القيود ‏السياسية ‏

مايو 21, 2025 - 08:49
‏ حين تتحول الساحات إلى منصات للنضال الثقافي// من أوسلو إلى "فدائي" النشيد الوطني الفلسطيني يخترق القيود ‏السياسية ‏

توفيق العيسى

قد يبدو غناء النشيد الوطني ‏الفلسطيني "فدائي" في قلب أوسلو – مترجماً إلى النرويجية - مفارقة ‏سياسية، إذ ارتبطت المدينة باتفاقيات السلام التي اعتبرها كثير من ‏الفلسطينيين تنازلاً عن الحقوق الوطنية، وآخرون اعتبروها مؤامرة، ‏لكنها اليوم تحتضن مشهداً مختلفاً؛ حشود تهتف بنشيد المقاومة، وكأن ‏التاريخ يعيد رسم نفسه عبر الإرادة الشعبية.‏

ما حدث في أوسلو لم يكن مجرد تظاهرة، بل لحظة حفرت في الوعي ‏السياسي والثقافي، حيث أصبحت الفنون وسيلة نضالية تتحدى الخطاب ‏التقليدي، وتفتح فضاء جديداً للتضامن في هذا المشهد، لا تستخدم ‏الكلمات الدبلوماسية، بل تحكي القصة عبر ألحان تخترق الصمت ‏السياسي، وترسم حضوراً فلسطينياً يتحدى التهميش الإعلامي.‏

في ظل التحولات السياسية التي تشهدها النرويج، يبدو أن الاعتراف ‏الرسمي بدولة فلسطين عام 2024 لم يكن خطوة معزولة بل جزء من ‏تحول تدريجي في الرأي العام الأوروبي، وإذا كان الدعم السياسي لا ‏يزال متأثراً باعتبارات دبلوماسية معقدة، فإن الثقافة والفنون لا تخضع ‏لذات القيود بل تتحرك بحرية لتشكل لغة جديدة للنضال.‏

لكن المفارقة الأعمق تكمن في أن أوروبا رغم موجات التضامن ‏الشعبي المتزايدة مع الفلسطينيين لا تزال تواجه معضلة الخوف من ‏انتقاد السياسات الإسرائيلية، خشية الاتهام بمعاداة السامية. فبينما يدفع ‏الرأي العام نحو دعم الحقوق الفلسطينية تجد بعض الحكومات ‏والمؤسسات الأوروبية نفسها عالقة بين القناعات الأخلاقية ‏والاعتبارات السياسية المعقدة، هذه الحساسية في التعامل مع القضية ‏الفلسطينية دفعت كثيرين إلى تجنب المواقف الواضحة خشية التبعات ‏الإعلامية أو السياسية، ومع ذلك فإن موقف النرويج الذي أتاح غناء "‏فدائي" في ساحاتها بدا وكأنه موقف فدائي بحد ذاته، حيث يتحدى ‏الخطاب التقليدي الأوروبي ويفتح مساحة أوسع للتضامن الثقافي.‏

إن هذا الحدث لا ينفصل عن حركة أكبر تتجلى في الفنون كأدوات ‏للنضال السياسي، إذ نشهد في عدة مدن أوروبية مساحات تعبير غير ‏تقليدية تمتد من الفعاليات الموسيقية إلى المسرحيات والفنون البصرية ‏التي تنقل الرسائل السياسية، بعيداً عن القنوات الرسمية المعتادة. هذه ‏الأنماط الجديدة من النضال لا تنتج بالضرورة تغييراً سياسياً مباشراً، ‏لكنها تؤثر على الرأي العام، وتضغط على الحكومات عبر الناخبين في ‏الديمقراطيات الغربية، حيث يبدو أن التأييد الشعبي بدأ يتحول إلى ‏خطوات سياسية ملموسة، كما حدث في النرويج.

بين الاحتجاجات التقليدية والتعبير الثقافي، تتشكل لغة جديدة للنضال ‏تجعل القضية الفلسطينية أكثر حضوراً في النقاشات العامة، وتساهم في ‏تفكيك الصور النمطية التي تروجها بعض وسائل الإعلام. في المقابل ‏يوفر الاعتراف السياسي دعماً رسمياً يعزز مكانة فلسطين في المجتمع ‏الدولي.‏

الفنون ليست مجرد وسيلة تعبير، بل باتت في هذا السياق فعلاً سياسياً ‏يضرب بجذوره في الوعي الشعبي، حيث تتحول الأغاني والمسرحيات ‏والفنون البصرية إلى أدوات تعيد سرد التاريخ بعيداً عن الروايات ‏الرسمية. هذه المساحات الفنية الجديدة لا تغير السياسات فوراً لكنها ‏تحدث أثراً ممتداً، إذ يؤثر الضغط الشعبي على الحكومات في ‏الديمقراطيات الغربية ويعيد تشكيل الخطاب حول القضية الفلسطينية ‏بشكل يتجاوز الدبلوماسية الرسمية.‏

من أوسلو، حيث وقعت اتفاقيات السلام إلى ساحاتها التي تنشد "فدائي" ‏يبدو أن التاريخ يكتب اليوم بصيغة مختلفة، حيث لا تسود الرواية ‏الرسمية وحدها، بل تتردد الأصوات التي تخترق السياسة وتصل إلى ‏وجدان الشعوب.‏

فهل يمكن للفن أن يصبح قوة رئيسية في إعادة رسم التضامن السياسي؟ ‏ربما لا تزال الإجابة غير واضحة، لكن المؤكد أن الألحان التي صدحت ‏في أوسلو أعادت تعريف العلاقة بين الثقافة والنضال وأظهرت أن ‏الفنون لا تغنى للفرح فقط بل للمقاومة والهوية أيضاً وفي الأماكن غير ‏المتوقعة.‏