حين تتحول الساحات إلى منصات للنضال الثقافي// من أوسلو إلى "فدائي" النشيد الوطني الفلسطيني يخترق القيود السياسية

توفيق العيسى
قد يبدو غناء النشيد الوطني الفلسطيني "فدائي" في قلب أوسلو – مترجماً إلى النرويجية - مفارقة سياسية، إذ ارتبطت المدينة باتفاقيات السلام التي اعتبرها كثير من الفلسطينيين تنازلاً عن الحقوق الوطنية، وآخرون اعتبروها مؤامرة، لكنها اليوم تحتضن مشهداً مختلفاً؛ حشود تهتف بنشيد المقاومة، وكأن التاريخ يعيد رسم نفسه عبر الإرادة الشعبية.
ما حدث في أوسلو لم يكن مجرد تظاهرة، بل لحظة حفرت في الوعي السياسي والثقافي، حيث أصبحت الفنون وسيلة نضالية تتحدى الخطاب التقليدي، وتفتح فضاء جديداً للتضامن في هذا المشهد، لا تستخدم الكلمات الدبلوماسية، بل تحكي القصة عبر ألحان تخترق الصمت السياسي، وترسم حضوراً فلسطينياً يتحدى التهميش الإعلامي.
في ظل التحولات السياسية التي تشهدها النرويج، يبدو أن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين عام 2024 لم يكن خطوة معزولة بل جزء من تحول تدريجي في الرأي العام الأوروبي، وإذا كان الدعم السياسي لا يزال متأثراً باعتبارات دبلوماسية معقدة، فإن الثقافة والفنون لا تخضع لذات القيود بل تتحرك بحرية لتشكل لغة جديدة للنضال.
لكن المفارقة الأعمق تكمن في أن أوروبا رغم موجات التضامن الشعبي المتزايدة مع الفلسطينيين لا تزال تواجه معضلة الخوف من انتقاد السياسات الإسرائيلية، خشية الاتهام بمعاداة السامية. فبينما يدفع الرأي العام نحو دعم الحقوق الفلسطينية تجد بعض الحكومات والمؤسسات الأوروبية نفسها عالقة بين القناعات الأخلاقية والاعتبارات السياسية المعقدة، هذه الحساسية في التعامل مع القضية الفلسطينية دفعت كثيرين إلى تجنب المواقف الواضحة خشية التبعات الإعلامية أو السياسية، ومع ذلك فإن موقف النرويج الذي أتاح غناء "فدائي" في ساحاتها بدا وكأنه موقف فدائي بحد ذاته، حيث يتحدى الخطاب التقليدي الأوروبي ويفتح مساحة أوسع للتضامن الثقافي.
إن هذا الحدث لا ينفصل عن حركة أكبر تتجلى في الفنون كأدوات للنضال السياسي، إذ نشهد في عدة مدن أوروبية مساحات تعبير غير تقليدية تمتد من الفعاليات الموسيقية إلى المسرحيات والفنون البصرية التي تنقل الرسائل السياسية، بعيداً عن القنوات الرسمية المعتادة. هذه الأنماط الجديدة من النضال لا تنتج بالضرورة تغييراً سياسياً مباشراً، لكنها تؤثر على الرأي العام، وتضغط على الحكومات عبر الناخبين في الديمقراطيات الغربية، حيث يبدو أن التأييد الشعبي بدأ يتحول إلى خطوات سياسية ملموسة، كما حدث في النرويج.
بين الاحتجاجات التقليدية والتعبير الثقافي، تتشكل لغة جديدة للنضال تجعل القضية الفلسطينية أكثر حضوراً في النقاشات العامة، وتساهم في تفكيك الصور النمطية التي تروجها بعض وسائل الإعلام. في المقابل يوفر الاعتراف السياسي دعماً رسمياً يعزز مكانة فلسطين في المجتمع الدولي.
الفنون ليست مجرد وسيلة تعبير، بل باتت في هذا السياق فعلاً سياسياً يضرب بجذوره في الوعي الشعبي، حيث تتحول الأغاني والمسرحيات والفنون البصرية إلى أدوات تعيد سرد التاريخ بعيداً عن الروايات الرسمية. هذه المساحات الفنية الجديدة لا تغير السياسات فوراً لكنها تحدث أثراً ممتداً، إذ يؤثر الضغط الشعبي على الحكومات في الديمقراطيات الغربية ويعيد تشكيل الخطاب حول القضية الفلسطينية بشكل يتجاوز الدبلوماسية الرسمية.
من أوسلو، حيث وقعت اتفاقيات السلام إلى ساحاتها التي تنشد "فدائي" يبدو أن التاريخ يكتب اليوم بصيغة مختلفة، حيث لا تسود الرواية الرسمية وحدها، بل تتردد الأصوات التي تخترق السياسة وتصل إلى وجدان الشعوب.
فهل يمكن للفن أن يصبح قوة رئيسية في إعادة رسم التضامن السياسي؟ ربما لا تزال الإجابة غير واضحة، لكن المؤكد أن الألحان التي صدحت في أوسلو أعادت تعريف العلاقة بين الثقافة والنضال وأظهرت أن الفنون لا تغنى للفرح فقط بل للمقاومة والهوية أيضاً وفي الأماكن غير المتوقعة.