الشهيد عودة الهذالين..لا ارض أخرى
بقلم عيسى قراقع

الشهيد عودة الهذالين..لا ارض أخرى
بقلم عيسى قراقع
في قرية صغيرة تسمى أم الخير، في مسافر يطا جنوب الخليل في فلسطين، قُتل عودة الهذالين يوم 28.7.2025، ليس في جبهة قتال، ولا في "حادث عرضي"، بل في فعل واضح ومتعمد: رصاصة واحدة من مستوطن, ومضى، لامحاكمة، لا اعتقال، لا مساءلة، فالقاتل مستوطن، والضحية مواطن فائض في دولة لا تعترف بأرواحنا.
في تلك الأرض التي تعيش على أعصابها منذ عقود، تتقدّم المستوطنات وتُحاصر البيوت، وتتحوّل كل شجرة إلى هدف، وكل فلسطيني إلى "خطر أمني"، حتى لو لم يحمل سوى سطل ماء أو قطعة خبز، أو حفنة حطب، او يرغولا وأغنية.
لكن عودة لم يكن فقط ضحية جريمة، كان أيضًا صوتًا يحكي ما لا يُروى، لقد ساهم في إنتاج الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى – No Other Land"، الذي رصد جريمة التهجير في مسافر يطّا، وكشف وجوه الفلسطينيين الذين لا يملكون وطنًا آخر، لأنهم هم الوطن.
نال الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2025، ووقف العالم يُصفّق له، لكن أحد أبطاله، الراوي الصادق عودة الهذالين، الذي حمل الكاميرا بدل السلاح، قُتل برصاصة المستوطن بعد شهور من اعلان الجائزة.
كأن الاحتلال يقول:
حتى إن سردت حكايتك بأناقة وسلام، لن نسمح لك أن تعيش.
ما حدث مع عودة، ليس استثناء، بل جزء من حرب واسعة. فالضفة تُباد بالتقسيط، وغزة تُباد بالجملة، في الأولى: رصاصة، حاجز، جرافة، مستوطن، اعتقال ومداهمة، وفي الثانية: صاروخ، طائرة، قصف، حصار، مجاعة.
والقانون واحد:
"لا يحقّ لهذا الشعب أن يبقى حيًا."
عودة لم يكن يحمل سلاحًا، كان يحمل حكاية، وحكاياتنا، كما يبدو، أكثر خطورة من البنادق، فما يخيف الاحتلال ليس فقط الفلسطيني المسلّح، بل أيضًا الفلسطيني الذي لا يتنازل، الذي يروي، الذي يصوّر، الذي يقف في المؤتمرات ويقول: "نحن لا نملك أرضًا أخرى، لكننا نملك الحق في هذه الأرض."
عودة الهذالين ولد من تراب هذا المكان، فلاحا يعرف اسماء الحجارة، وطرق القمر فوق التلال، لكنه خطف من يومه بطريقة صارت ممنهجة ومكررة: رصاصة في الجسد، وصمت في السماء.
مايحدث في الضفة المحتلة من اقتحامات يومية، اعتقالات،اعدامات ميدانية، حرق للبيوت،مصادرة الاراضي، وهدم للخيام، ليس منفصلا عن الحرب الدموية في غزة، حيث تقصف المدن، وتجوع المخيمات، وتباد العائلات كاملة أمام كاميرات العالم.
الدم واحد
والرصاص واحد
و المستهدف واحد:
الوجود الفلسطيني ككل.
يبدو انهم يريدون أن بعيدوننا إلى نقطة الصفر، أن يقولوا لنا: لامكان لكم في هذه الارض، في غزة بالموت الجماعي، وفي الضفة والقدس بالموت الفردي المستمر في كل لحظة.
نكتب لا لنرثي عودة، بل لنقول: إن استشهاده ليس نهاية قصة، بل تذكير يومي بأن الحرب لم تعد حرب حدود، ولا دفاعا عن النفس كما يدعون، بل حرب ضد المعنى، ضد اسم القرى، ضدالرضيع والبئر والخيمة والمفتاح والذاكرة.
المستوطن قتل ارض القصيدة،
لانها لا تركع،
ولأنها تعرف وحدها،
كيف تحب دون أن تنسى،
وكيف تعيش، رغم أن الجرافة لا تريدها حية.
في قرية أم الخير لا يأتينا الموت من السماء كما في غزة، يمشي على قدمين، بلحية مشذبة، وبندقية مرخصة، يصافح الجنود، يضحك، ثم يضغط على الزناد، عربدة، بل اكثر، انها فلسفة كاملة، مشروع استيطاني احلالي عنصري استعماري، محمي بجيش، مدعوم بقانون، ومغطى بصمت دولي، وبكل أنواع الأسلحة.
عودة لم يكن بطلا تلفزيونيا، كان رجلا من اولئك الذين يشبهون الأرض: صامت، صامد، ابن البراري وأسرارها العميقة، استشهد لأن حضوره كان مزعجا، ولأن وجهه يذكرهم أنهم غرباء، ولأن عينيه تقولان: انا هنا منذ اجيال، وانت ايها المحتل عابر سلاح.
في مسافر يطا، حيث الأرض تمشي حافيةً على شظايا الاحتلال، كان عودة الهذالين واقفًا، لا على رصيفٍ من الصمت، بل على ضمير الأرض، لم يكن مجرد جسد يعترض طريق الجرافات، بل كان فكرة، وكان الفكرة أشدّ صلابة من الإسمنت وأعمق من آثار الجند على التراب أمام غول المستوطنات، كان صدى لأصوات أجداده، وترابًا يعاند المحو، وريحًا تعرف أسماء الصخور واحدةً واحدة.
في مسافر يطا كل شيئ مسافر: الماء، المدرسة،البيت،المرعى، الشجرة، والحياة نفسها، أنه الطغيان الذي كتب عنه دوستويفسكي حين قال: أن القتلة الحقيقيين هم من يقننون الجريمة، ثم ينامون مرتاحي الضمير، ويستمتعون على اضواء الإبادة.
أي عبث هذا؟ أن تُصافحك جائزة الأوسكار في يد، وفي اليد الأخرى رصاصة المستوطن؟ أي زمن هذا؟ حين يصبح المجرم حرًّا والموثّق ميتًا، والحقيقة ملفًا مغلقًا في درج المحكمة العسكرية؟ وقد تم الافراج عن المستوطن القاتل، واحتجزت جثة عودة الهذالين لاكثر من عشرة ايام، ولما اعادوا جثمانه، اغتسل بدمه وتوضأ بسورة الزلزلة.
لم يكن عودة جسدًا يمشي في مسافر يطا، بل ظلًّا طويلًا لحلمٍ عمره أكثر من الأرض، لم يكن فردًا، بل عودة للذين لم يغادروا أبدًا، وإن دفنتهم البنادق في فجوة الصمت.
في الاساطير الملحمية "سيزيف" تعب من دفع الصخرة، لكن عودة كان يدفع العالم نحو كرامته، وهو يعلم أن الشهادة ليست هزيمة، بل توقيعٌ أخير على عقد البقاء.
عودة كان فلاحا لا يحمل سيفا،
بل يحمل في كفه قمحا،
وفي قلبه شمس الجنوب،
كان يعرف أن التراب لا يفهم بالكلمات،
بل بالعرق ،
والصبر الذي لا يموت.
لكننا نعرف ما قاله وليد دقّة، ذلك الذي كتب في السجن، وارتقى شهيدًا، وهو يواجه السجن والموت بالكلمة: "لن أسمح لهم أن يكتبوا السطر الأخير"، ففي غزة لم يكتب السطر الاخير بعد، وفي الضفة لم يمح الشاهد الاخير، وفي ام الخير، صوت عودة الهذالين مازال يمشي في التراب، ويهمس في اذن الارض:
ما زلنا هنا،
لا ارض أخرى لنا.
أيها العابر على نشرة الأخبار توقف،
هذا عودة،
وهذا اسمه،
وهذه الأرض التي عشقها، هي ذاتها التي نادت عليه،
ليعود،
في ام الخير،
لا يدفن الشهداء،
بل يزرعون.
سلامٌ عليك يا من علّمتنا أن الجسد لا يموت إن حمل الأرض في قلبه، وأن الرحيل ليس موتًا، بل تناثرٌ في الشجر، وانتشارٌ في الحكايات، وارتجافٌ خفيف في صدور الأحياء.
سلامٌ على عودة...
الذي لن يعود،
لأنه لم يذهب أبدًا.