أما آن لنا أن نغير نشيدنا الوطني؟
زهير الدبعي
قد يُفهم من الدعوة لتغيير النشيد الوطني الفلسطيني بأنه نوع من السماجة في غمرة الأوضاع القاسية جداً التي يفرضها المحتلون على فلسطين الوطن والشعب والقضية، وعلى شرعة حقوق الإنسان.
وقد تفهم الدعوة بأن غرضها حرف الأنظار عن الأهوال والأوجاع والكوارث التي تطحن كل أجيال شعبنا في غزة المحاصرة والمدمرة، والمستباحة دماء أهلها بكل عنجهية وعنصرية وصلف وعنف وتوحش واستكبار.
الدعوة لتغيير نشيدنا الوطني تنطلق من حاجتنا الملحة لتقوية مقاومتنا وتفعيلها لتصبح أكثر جدية وعمقاً وأطيب ثماراً، من خلال الكف عن الاتكال على البطل الذي يتصف بكل صفات وقدرات الأبطال والتي عبرت عنها الأجيال بكلمة (فدائي). المطلوب توسيع نطاق المقاومة التي طالما راهنت على (الفدائي)، وأطلق على هذا النمط من المقاومة بالتوكيل إلى نمط آخر أكثر قوة وفعالية وجدية وجدوى وهي المقاومة الجماعية التعاونية التشاركية.
الرهان على بطولة وعنفوان وشجاعة وشموخ ألف أو بضعة آلاف من الفدائيين فيما تبقى الأكثرية تراقب وتصلي وتسأل الله أن يسدد رميهم ويثبت أقدامهم وينصرهم. المقاومة الجماعية التشاركية تنطلق من حقيقية ان مقاومة الخصوم المحليين أو الأعداء الخارجيين إنما هي واجب ومسؤولية كل مواطن. لذلك لا يجوز أن تصبح المقاومة حرفة يتخصص فيها عدد من المواطنين، فكما أن الاحتلال لا يستثني مواطناً واحداً من إرهابه فإن واجب المقاومة لا استثناءات فيه؛ لأنه جهد جماعي تشاركي تعاوني من الجميع وبالجميع وللجميع.
وانطلاقاً من عقيدتنا وشريعتنا فإن الجهاد في سبيل الله ليس امتيازاً لأحد وليس مقتصراً على أحد تماماً كالصلاة والصيام والزكاة، فهل يجوز ان نؤسس حزباً او جماعة للمصلين، وآخر للصائمين، وثالثاً للمزكين، ورابعاً للحجاج والمعتمرين؟ مقاومة كل ظلم داخلي، وكل عدوان خارجي هو مكون أساسي من مكونات الدين، ومن مقتضيات تقوى الله تبارك وتعالى، وذلك لأن الظلم بكل أنواعه وصوره ومستوياته ينتهك تكريم الخالق للإنسان "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " ( الإسراء 17: 70)، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل، و كل ما يأمر به الخالق يصبح تكليفاً لكل مؤمن " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " ( النحل 16: 90).
فإن مقاومة الظلم الجماعي والفردي يصبح فرض عين على كل مؤمن؛ لأن الدين ليس مشروعاً أخروياً وإنما للدنيا والآخرة، قال تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " (القصص 28: 77).
غاية الدين أوسع وأعمق من بناء المساجد والزوايا والمقامات، والقيام بالطقوس والشعائر والمناسك، وإنما غايته تحرير الإنسان من كل ما ينتهك كرامته وحقوقه الأساسية من استعباد وطغيان وطائفية وعنصرية واستغلال وفساد واحتلال.
غاية الدين لا تقتصر على النجاة من الجحيم والفوز بالجنة في اليوم الآخر فقط، وإنما بناء حياة لا يتحكم فيه إنسان بإنسان آخر، ولا يسلب جهد وعرق إنسان، ولا يقهر إنساناً لدينه أو مذهبه أو عرقه أو جنسه أو لونه أو لغته أو مكانته الاجتماعية.
وكم تباهينا بـ (الصحوة الإسلامية) التي كان لها ثمار طيبة صالحة مباركة وإيجابية إلا أنها لم تكن جدية وعميقة لدرجة تسهم في (السلم الاجتماعي)، وفي تحرير البلاد والعباد، وفي إنجاح خطط التنمية.
نشيدنا الوطني الفلسطيني يذكر كلمة فدائي (26) مرة، ويذكر كلمة فلسطين مرتين، بالإضافة إلى كلمات مثل: أرضي، الجدود، شعبي، الخلود، ناري، بركان، ثأري، الجبال، النضال، الرياح، السلاح، الكفاح، ، القسم، العلم، الألم.
وقد عبّر نشيدنا الوطني عن رهاننا على المقاتل الذي يفتدي وطنه وشعبه وقضيته العادلة بروحه ودمه وحياته، كما ترجم ذلك بالأفعال وليس فقط بالأقوال. الشهيد عبد الرحيم محمود في قصيدته (الفدائي) التي مطلعها:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
لعمرك هذا مماتُ الرجال ومن رام موتاً شريفاً فذا
لعمرك إنّي أرى مصرعي ولكن أغذّ إليه الخطى
وقالت شاعرتنا فدوى طوقان عن عبد الرحيم محمود " كانت قصيدته الكبرى ساعة استشهاده"، ومن المعروف أن الشهيد عبد الرحيم محمود ترك موقع المعلم في كلية النجاح الوطنية بنابلس، واشترى من ماله بندقية، وسقط شهيداً في قرية الشجرة في الجليل في العام 1948.
وكما ترجم ذلك أجيال من الشهداء لأكثر من مئة عام، والفدائي هو أقرب ما يكون للقديس الذي يفيض صدقاً وأمانة واستقامة ونزاهة وإخلاصاً وتفانياً، لذلك فالفدائي في جميع العصور هو ترجمة حبه لرسالة الرسل والأنبياء التي أرادها الخالق تحريراً للإنسان من كل ما يشينه من ظلم ووضاعة وطمع وأنانية وقسوة وفساد.
واللافت أن نشيد (فدائي) لا يذكر القدس ولا المسرى ولا كنيسة القيامة ولا شجرة الزيتون، ولا سلب الوطن والتهجير، وربما يقول قائل هل يشترط أن يذكر النشيد الوطني عاصمة الوطن أو غير ذلك من معالم الوطن ومكوناته، والجواب لا يوجد وطن في التاريخ المعاصر تعرض ويتعرض إلى سلسلة من جرائم التطهير العرقي كما تعرضت له فلسطين وأجيال شعبنا وأمتنا.
وأرى في (زهرة المدائن) التي تغنيها السيدة فيروز، ومن كلمات وألحان الأخوين رحباني ما يعبر عن وطننا ومعاناتنا وأحزاننا وإرادتنا باحتراف فني أنيق وعميق ومبدع ومؤثر، ويجمع بتناغم بين مكونات هويتنا التي يعمل العنصريون لتصبح في حالة تناطح وصراع بدلاً من الحالة الطبيعة التي استمرت قروناً طويلة في حالة تناغم وتكامل مثل:
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى السماء
الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان
وبعد الحديث عن الأحزان والغضب تفتح القصيدة أبواباً للثقة والعزيمة والإرادة والأمل:
لن يقفل باب مديتنا فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وسيهزم وجه القوة
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
للقدس سلام آتٍ
إن ركيزة نشيدنا الوطني الفلسطيني ومحوره هو (الفدائي)، وقد آن الأوان لأن نتعلم من أن الرهان على قداسة وجلال وشجاعة وعظمة الفدائي لم يكن مجدياً بالقدر الكافي بدليل الاستغوال الإضافي للمحتلين العنصريين. إننا نحتاج إلى مدرسة مقاومة جماعية تشاركية تعاونية قوية وجدية وعميقة ومؤثرة ومثمرة لتحمي وتراكم وتطور الإنجاز الأغلى والأعظم لأجيال شعبنا التي أثمرت بقاء وصمود أكثر من (7) ملايين عربي في فلسطين رغم إرهاب المحتلين وعنفهم وقوانينهم العنصرية.
وكم هو جميل وقيم أن يُعلن عن مسابقة لنشيد وطني فلسطيني جديد يتناول عدداً من المحاور:
1- أجدادنا وجداتنا هم الذين زرعوا سهول وجبال فلسطين بشجرة الزيتون المباركة قبل مئات السنين من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام.
2- عرفت فلسطين بوطن العيش المشترك إيماناً واحتراماً لمبادئ التعددية والتنوع، كما امتازت بغداد وحلب وقرطبة وغرناطة بتناغم بين كل المكونات والأديان والمذاهب والأعراق.
3- يكمن وراء الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه والسلام من مكة المكرمة إلى القدس ليعرج منها إلى السماء دروس من الله سبحانه وتعالى بالربط العقدي بين الحرم المكي والحرم القدسي، وبأن القدس هي طريق السماء وبوابة السماء.
4- فلسطين هي الوطن الأصلي والأول للمسيحية فقد ولد سيدنا المسيح في بيت لحم، ونشاً وترعرع في الجليل، ودعا إلى الله على بصيرة في القدس. وإن طلائع المؤمنين والقديسين والأديرة والكنائس والشهداء كانت وما زالت في فلسطين.
5- كان الفلسطينيون منتجين للغذاء وكانوا يصدرون الفائض منه إلى أوروبا كالبرتقال اليافي الشهير، وشعير بئر السبع، وكذلك القطن الذي كان يصدر من ميناء عكا في القرن الثامن عشر. ومن فائض زيت الزيتون صنع أجدادنا الصابون الممتاز وصدروا منه كميات كبيرة إلى العديد من الأقطار.
6- جرى تهجير الفلسطينيين بالعنف الدموي المفرط بناء على سياسات وخطط وتعليمات مكتوبة، وما زال المحتلون يفرضون قوانين وإجراءات عنصرية، ويعملون بسياسة القتل والتدمير لتنفيذ مراحل جديدة من التهجير.
7- عانت أجيال من الأطفال والأمهات، وغيرهم من أهوال وأوجاع التهجير في عشرات المخيمات، وخارجها، بصبر وإيمان ووعي وثبات، ومن رماد وركام المعاناة المركبة أهدى الفلسطينيون في الوطن والشتات عدداً كبيراً من الأطباء والمعلمين والباحثين والمهندسين والقضاة والكتّاب والفنانين، وغيرهم من نساء ورجال الخدمة العامة.
نعرف جميعاً أن النشيد الوطني للأقطار ليس من المألوف أن يتضمن كثيراً من الحقائق، ولكن فلسطين الوطن والشعب والقضية يفرض عليها المحتلون العنصريون مزيداً من القسوة والعنف والتوحش، ومحاولات محمومة لفرض الرواية الصهيونية الطافحة بالكذب والغش والخداع والخرافات والأساطير، واستهداف لهويتنا وتراثنا وذاكرتنا بدعوى أن الفلسطينيين ليسوا سوى قبائل من البدو الرُّحل الذين جاؤوا إلى فلسطين قبل عقدين أو ثلاثة عقود من (حرب الاستقلال) وسكنوا في الصحراء والغابات والمستنقعات في إنكار متعمد لوجودنا الحضاري العميق والبعيد في فلسطين.
وهل ما يمنع أن تكون كلمات النشيد الجديد لمواطن من الجزائر أو الكويت أو سلطنة عُمان، وأن يلحن كلماته موسيقار من اليمن أو جيبوتي أو المملكة المغربية؟ فالأشقاء في العراق أصبح نشيدهم الوطني منذ أكثر من ثلاثين عاماً (موطني) وهي قصيدة لإبراهيم طوقان وألحان محمد فُليفل من لبنان.
ويتعين عليّ أن اعترف بأن تغيير النشيد الوطني الفلسطيني (لا يُسمن ولا يُغني من جوع)، إذا لم يكن تجسيداً لتغيير في ذهنيتنا وإدراكنا أن واجب الدفاع عن الوطن وحماية جيل أولادنا وأحفادنا يحتاج إلى تجسيد فكرة المقاومة الجماعية التشاركية التعاونية بعمقها العربي والإسلامي والمسيحي والإنساني، ووضع حد لـ (خصخصة) المقاومة؛ لأن المقاومة جهاد والجهاد مسؤولية كل مواطن، وكل الأحرار الذين يرفضون الإذعان والانبطاح كما يدركون خطورة العسكرة وإفرازاتها التي لا تُحصى.
لم تكن رسالتنا ولا مسيرتنا في يوم من الأيام أن نقتل أو ندمر منزلاً أو نغتصب حقاً لغيرنا أو نعتدي على كنيس أو أي مكان مقدس؛ لأن رسالتنا أن نستعيد الأمن والأمان والاستقرار لوطننا ونستعيد الكرامة والحرية والعدل والسلام لشعبنا وأمتنا، وكل ضحايا الظلم والعنصرية والقسوة والعنف والتوحش. رسالتنا رسالة حياة، وقد ترجمنا هذه الحقيقة بنشيد جماعي قبل أكثر من خمسين عاماً في سجن نابلس القديم:
نعم لن نموت لكننا سنقتلع الموت من أرضنا.
...........
آن الأوان لأن نتعلم من أن الرهان على قداسة وجلال وشجاعة وعظمة الفدائي لم يكن مجدياً بالقدر الكافي بدليل الاستغوال الإضافي للمحتلين العنصريين. إننا نحتاج إلى مدرسة مقاومة جماعية تشاركية تعاونية قوية وجدية وعميقة ومؤثرة ومثمرة لتحمي وتراكم وتطور الإنجاز الأغلى والأعظم لأجيال شعبنا.