خَمِيسُ السِرِّ المُقَدَّسِ

بهاء رحال
خَمِيسُنَا الفِلَسْطِينِيُّ المُغَمَّسُ بِالدِّمَاءِ وَالْعَذَابِ وَالْفِدَاءِ..
المَصْلُوبُ عَلَى خَشَبَةِ الْبَاطِلِ فِي سَمَاءِ الْحَقِّ..
القائمُ بالمجدِ..الصاعد للأعلى.. الشاهدُ على فصول المذبحة.. الإبادة التي امتدت شهورًا طويلة، واتسع معها فصل العذاب والقهر، والبحث عن الخلاص والسلام الممكن في زمن الموت والذبح والجوع والحصار، وظلم العالم الذي تدارى جبنًا وخوفًا، ولم يصنع شيئاً لوقف كل ما حدث ويحدث، والناس في غزة معلقون على خشبة الاحتلال الذي يواصل حرب الإبادة والتطهير العرقي، ويواصل فعل النكبة بكل أشكالها وصورها وآلامها، وبكل ما أوتي من وحشية وقوة تدميرية، وبهذه البشاعة الساعية لشطب شعب كامل عن وجهِ الخريطة.
وبماذا أوصيكم؟ هل أوصيكم بالصبر في مواجهة طائرات أف ٣٥ وقذائف الميركافاة المتطورة! أم أوصيكم بالصبر في مواجهة الجوع والعطش! باحتمال العيش في خيمة بالية! أم أوصيكم بأن تُحسنوا وداع أحبّتكم تحت الأنقاض، أطفالكم الصغار، وأن تتعلموا كيف تُجهّزون جنازة من بقي من أطفالكم بأيديكم العارية، وكيف ترفعون رؤوسكم في العراء رغم دخان القصف وانهيار البيوت على ساكنيها؟ هل أوصيكم بأن تحفظوا أسماء من ارتقوا في قلوبكم، بعد أن شُطبت أسماؤهم من السجلات، وبقيت صورهم معلّقة في الذاكرة كوشمٍ أبديّ لا يزول؟
في خميس السر المقدّس، يُعيد الفلسطيني صلبه على مرأى العالم، يُساق إلى مذابح القتل، دون أن يُرفّ جفنٌ في هيئات الأمم ومؤسسات حقوق الإنسان، وبلا خجل من أولئك المتواطئين الصامتين، الذين جعلوا من ألم غزة خلفية هامشية ولغوًا في الخطابة والشعار. والكلام الذي لا يدفع الدفع عن الذين يعيشون تحت وطئ الإبادة.
وفي خمّيس السر المقدّس، أيقونة الفداء التي لا تموت، التي يعيشها الفلسطيني بذات الحزن والوجع في كل مستشفى ومدرسة وشارع يُقصف، وكل أمّ ثكلى تبكي أطفالها، فلا تسمع سوى صدى صوتها، وفي كل بيتٍ يتهاوى على حلمٍ صغير، ولعبٍ متروكة في الزوايا.
وفي هذا الزمن المشوّه، حيث تصبح الضحية متّهمة، والجلاّد يضع على كتفه أوسمة البطولة، غير آبه بكل ما اقترفه من جرائم، نقف نحن، الفلسطينيون، نُصلّي لا لشيء، بل لنبقى. نُصلي لأجل من تبقّى تحت الركام، لأجل المفقودين الذين نعرف أنّهم لن يعودوا، فتظل ذكراهم فينا. نُصلي لأجل غزة التي تعلّمنا في كل مرة، كيف يُمكن للروح أن تُزهر من بين الركام، كيف يُمكن للجراح أن تغدو أناشيد، وللبكاء أن يتحول إلى قصائد حياة.
فمن رحم هذا الوجع، تُولد القيامة ومن قلب الموت، ننهض. ومن تحت التراب، نصيح: باقون، باقون، وسنظل نكتب، ونرسم، ونحكي، ونبكي، ونغنّي، لأنّ شعبًا بهذا الصبر لا يُمكن أن يُمحى، لا يُمكن أن يندثر، لأن كل خميسٍ نُذبح فيه… هو خميس قيامة ونور يتجلى بصور الحرية والاستقلال القادم لا محالة.