من الكارثة الى الامل نحو مشروع وطني جامع واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية

يونيو 9, 2025 - 10:20
من الكارثة الى الامل نحو مشروع وطني جامع واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية

د. ســـليمان جـــرادات

رئيس الهيئة الفلسطينية لحملة الدكتوراة في الوظيفة العمومية

 

تمر القضية الفلسطينية بمرحلة من أعقد مراحلها التاريخية، حيث يتكثف العدوان والاعتداءات وتتسع رقعتها في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وسط تصاعد في القتل والدمار واستباحة الإنسان والمكان وكارثة إنسانية وسياسية غير مسبوقة، في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ، والإجراءات والمداهمات للمدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية ، والذي أسفر عن أكثر من خمسين ألف شهيد، ودمار شامل ما يقارب 80 % من البنية التحتية خاصة في قطاع غزة ، شمل المنازل والمدارس والمستشفيات والجامعات وأدى إلى تهجير قرابة مليوني فلسطيني من منازلهم ، والان يقف القطاع على حافة الانهيار الكامل ، في ظل صمت دولي مريب لا يتجاوز حدود بيانات الشجب، دون أي تحرك فعلي لوقف العدوان أو فرض القانون الدولي الذي بقى في جوهره عاجزًا عن تطبيقه بفعل الحماية السياسية التي توفرها بعض الدول الكبرى لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة. إن هذا الانحياز الفاضح يقوّض الثقة الفلسطينية بالمجتمع الدولي، ويعزز القناعة بأن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الإرادة الوطنية ووحدة الصف الداخلي، لا على تصريحات جوفاء لا تتجاوز التضامن الخطابي.

 

وعلى الرغم من أن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الواقع الكارثي، فإن استمرار الانقسام في ظل الظروف الراهنة، وان كان شأن داخلي فلسطيني الا ان  استمراره أدى الى غياب استراتيجية وطنية موحدة  مما أضعف الموقف الفلسطيني، وفتح الباب أمام التدخلات الإقليمية والدولية، التي غالبًا ما تنطلق من حسابات ومصالح بعيدة عن تطلعات الشعب الفلسطيني.

 

في هذا السياق، تظهر أهمية الدور الذي تلعبه القيادة السياسية الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس محمود عباس، في التأكيد المتواصل على ضرورة إنهاء الانقسام، وعودة قطاع غزة إلى الشرعية الفلسطينية، وبالرغم من حجم الدمار والخراب الذي حلّ بقطاع غزة جرّاء العدوان الإسرائيلي الأخير، وما خلفه من معاناة إنسانية غير مسبوقة، فإن استعادة غزة إلى حضن الشرعية الفلسطينية تبقى ضرورة وطنية لا يمكن تجاوزها. فغزة، بكل ما تحمله من جراح ، ليست كيانًا منفصلًا، بل جزء أصيل من المشروع الوطني، ولا مستقبل لفلسطين دون وحدتها الجغرافية والسياسية. إن إعادة دمج غزة ضمن الإطار الشرعي لمؤسسات الدولة ومنظمة التحرير الفلسطينية لا تعني فقط إنهاء الانقسام، بل تمثل خطوة حاسمة لإعادة بناء المؤسسات، وتوحيد القرار الوطني، وتوفير الحماية السياسية والقانونية لشعبنا في وجه الاحتلال. وعلى الرغم من فداحة الكارثة، فإن أهل غزة يثبتون كل يوم أنهم مستعدون للنهوض والمشاركة في إعادة صياغة المشروع الوطني وقد تجلت مواقفهم بدعوتهم إلى استعادة الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

 

إن دعوة حركة حماس إلى العودة للشرعية لا تنبع من اعتبارات سياسية فقط، بل من ضرورة وطنية ملحة، تفرض تغليب المصلحة العامة على الحسابات الفئوية، والانخراط في مشروع وطني جامع، يتجاوز الحسابات الضيقة والتجاذبات الإقليمية التي أثبتت السنوات طعنها بخاصرة الفلسطينيين وعجزها عن حماية او دعم القضية أو إنجاز مشروع الدولة. فالوحدة الوطنية اليوم لم تعد خيارًا مطروحًا بل شرطًا وجوديًا لمواجهة تحديات المرحلة، وتحقيق السيادة، وانتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

 

لذا، فإن المشروع الوطني الفلسطيني بحاجة إلى مراجعة شاملة تنطلق من الداخل، تبدأ بالاعتراف بأخطاء المرحلة الماضية، وتنتقل من إدارة الانقسام إلى إنهائه، ومن سياسة ردود الأفعال إلى المبادرة بالفعل،  فالإصلاح لا يمكن أن يتحقق دون وحدة وطنية تقوم على أساس الشراكة السياسية، والمشاركة، والمساءلة، والتوافق وتقع على عاتق الجميع مسؤولية إعادة تفعيل الحياة السياسية كحق سيادي لا يخضع لمساومة. وفي المقابل، تتحمل القوى الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، مسؤولية وطنية تستدعي منها التخلي عن الحسابات الفئوية والارتباطات ، كما تتطلب مراجعة جادة للسياسات السابقة التي ساهمت في إضعاف المشروع الوطني، ووضع رؤية استراتيجية متوازنة تراعي الثوابت الوطنية ومتطلبات الواقع، وتعيد الثقة بين المواطن وكافة القوى السياسية وتعيد للإنسان الفلسطيني إلى موقع الفعل بكافة المجالات، وترتب أولويات العمل الوطني على قاعدة الوحدة قبل التنافس، في سبيل بناء مجتمع واقتصاد وسلطة وتأسيس مرحلة جديدة قوامها الإرادة السياسية الصادقة والشراكة الحقيقية.

 

وفي هذا السياق، تظل منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، المرجعية الوطنية الجامعة، التي لا يمكن تجاوزها. فهي التي خاضت معارك الاعتراف الدولي، وانتزعت لفلسطين مكانتها القانونية، وتحملت عبء النضال والدبلوماسية في تمثيل الفلسطينيين، ومن هنا، فإن مسؤولية حركة حماس وبعض الفصائل الوطنية تقتضي الانخراط الكامل في المشروع الوطني ضمن إطار المنظمة وحمايتها ، والابتعاد عن المحاور الإقليمية وابواقها الإعلامية التي تستخدم القضية الفلسطينية كأداة لمصالحها الخاصة لرفضها العملي لمجمل المبادرات الوطنية، متمسكة بإدارة قطاع غزة بشكل منفرد التي أوصلت القطاع الى حافة الهاوية، وإعاقة أي مشروع بهدف الى رفع المعاناة والظلم الذي تبيّن أن الانقسام  شكل وما يزال يشكل عائقًا بنيويًا أمام أي عملية تحرر وبناء مؤسسي، قانوني ، اقتصادي ، إداري.

 

إن الوطن الفلسطيني، رغم كل ما مرّ به من مآسي وتحديات، لا يزال حيًا في ضمير قيادته وشعبه يراهن على وعيه ووحدته وإصراره على التحرر وبناء الدولة والوقوف خلف ثوابته بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشربف وتحقيق المصالحة الوطنية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية وثبات الموقف، ستفشل كافة المؤامرات وسينهض الوطن من بين الركام كما نهض مرارًا عبر التاريخ  ،لان الشعب الفلسطيني، الذي قدم التضحيات وواجه أعتى الظروف ستكون له كلمة الفصل في الحفاظ على مصالحة الوطنية العليا في هذه اللحظة التاريخية التي لا تحتمل مزيدًا من التردد أو المراهنات الخاسرة فالوحدة لم تعد شعارًا، بل شرطًا وجوديًا للثبات، ومفتاحًا واقعيًا للانعتاق من سياسات وإجراءات وانتهاكات الاحتلال والانقسام، ولبناء مستقبل يليق بتضحيات هذا الشعب العظيم.