طوفان عودة النازحين من الجنوب للشمال

يناير 30, 2025 - 10:57
طوفان عودة النازحين من الجنوب للشمال

وليد العوض

مع ساعات الصباح الأولى ليوم الإثنين 27-1-2025 بدأت حشود النازحين العائدين بالزحف نحو الشمال بعد نزوح قصري لأماكن متعددة استمر لما يزيد عن خمسة عشر شهراً ذاقوا خلالها أمرّ العذاب، تنقلوا من مكان إلى آخر تحت وابل القصف المجنون الذي اقتلع خيامهم، وحوّل أجساد أطفالهم الغضة إلى اشلاء تناثرت في كل مكان. 

بدأت جحافل النازحون بالعودة إلى الشمال بعد أن أمضوا ليالي ثلاثاً في العراء يترقبون ساعة الصفر، وما إن حلت هذه حتى تدفق مئات الآلاف منهم على طول شارع الرشيد من خان يونس جنوباً حتى مدينة غزة شمالاً وصولاً إلى محافظة الشمال، النازحون تقاطروا مشياً، تحمل النساء أطفالهن على الأكتاف، والرجال يجرون عربات صُنعت على عجل، حملوا عليها ما استطاعوا من متاع خبروه خلال جولات النزوح التي سبقت، الفتية يربطون على ظهورهم فرُشاً بالية، وغطاء يقيهم برد الشتاء القارس، والأطفال يحملون زجاجات المياه  ليطفئ الظمأ من مسير العودة الطويل الذي يمتد لأزيد من خمسة عشر كيلومتراً في طريقٍ حوّلته الدبابات والجرافات إلى أخاديد.

 مشاهد العودة  تقشعر لها الأبدان، حيث فتى يحمل أنبوبة غاز على كتفه في هذا المسار الطويل، يصل مترنحاً تحت عبء هذا الحمل الثقيل إلى شمال غزة الحزينة، لكن من بقي  صامداً فيها اصطفوا على حواف الطريق المدمرة يذرفون دموع الفرح ينتظرون النازحين العائدين من الأحبة، الشباب والصبايا وقفوا يحملون أرغفة من الخبز وزجاجات من الماء لكل من عاد، في مشهدٍ يعكس طبيعة شعبنا وتكافله الاجتماعي في أشد الظروف حلكة، المئات ممن عادوا وصلوا إلى بيوتهم المدمرة وعلى أطلالها علا النحيب على بيوت تركت عامرة وغدت ركاماً، هؤلاء سارعوا لنصب خيامهم التي حملوها على أنقاض بيوتهم، وبالقرب منها ينتظرون الإعمار الذي قد يستمر سنوات إذا ما بقيت الأمور تدار على هذه النحو من التبسيط، ولسان حالهم يقول لن ننزح مرة أُخرى مهما حدث، وتحت أي ظرف من الظروف بعد المعاناة والألم الذي عايشوه خلال رحلة الموت والنزوح إن لم أقل حالة الذل والمهانة والعوز لشهور طوال. 

الآلاف من النازحين هاموا على وجوههم يبحثون عن منازلهم التي اختفت معالمها بعد أن اقتلعتها أسنان جرافات فاشية العصر وسوّتها بالأرض تحت جنازيرها، مشاهد مفرحة ومؤلمة يندى لها الجبين حيث يحتضن الآباء أبناءهم وبناتهم والدموع تنغمر مدرارة تغسل وجع النزوح الـمُر وأصوات تتردد بقوة لن ننزح مرة أُخرى، وفتية يرددون بصوت عالٍ: هل هذه غزة التي تركناها عامرة قبل عام، أم أنها تقليد لغزة التي نعرفها تبتسم على الدوام؟ 

 مشاهد عودة النازحين رغم أنها كانت صعبة وشاقة، وحتى أنها كانت مذلة بعض الشيء، لكنها مثّلت الطوفان الحقيقي، إنه "طوفان العودة" للبيت الذي أكد أن مخطط التهجير بفعل النار والدمار قد سقط وداسته أقدام شعبنا بعد 15 شهراً من النار والدمار، مشاهد العودة هذه تحمل رسالة مهمة مفادها أننا لن نرحل، وهي ردٌ عملي على مقترحات ترمب التهجيرية المغلفة بشعارات إنسانية، رسالة واضحة لمن يريد أن يفهم، وعليه أن يفهم أن الذين رفضوا رغم الموت والدمار والنار النزوح من شمال غزة إلى دير البلح وخان يونس ورفح، وهي على بعد بضعة كيلو مترات من شمال غزة، هؤلاء لن ينزحوا للخارج بعيداً عن الوطن الذي أحبوه ومن دمائهم شربت الأرض حتى ارتوت، كما هذه المشاهد تؤكد لكل من يتوجب عليه أن يفهم، وعليه أن يفهم أن الفلسطيني مرتبط بأرضه، متعلقٌ بها، وهو يفضل الموت فوقها ويدفن في ترابها على النزوح بعيداً عنها، إن حكاية علاقة الفلسطيني بأرضه وتوقه الدائم للعودة إليها جسدها شعبنا في طوفان العودة للشمال، حيث ما زالت الناس تزحف عائدةً بالرغم من العطش والجوع والبرد القارس، وتؤكد بملء فيها: إنا هنا باقون صامدون، وإلى هنا عائدون.