النيكروبوليتيكس والأهداف الجيوسياسية.. أداة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية

أكتوبر 14, 2024 - 09:22
النيكروبوليتيكس والأهداف الجيوسياسية.. أداة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية

مروان أميل طوباسي

تعد النيكروبوليتيكس، أو "سياسة الموت"، أداة أساسية في تنفيذ الأجندات الجيوسياسية للولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط. هذا المفهوم الذي صاغه الفيلسوف أشيل مبيمبي من الكاميرون، هو مصطلح يجمع بين كلمتي "نيكرو"(الموت) و"بوليتيكس" (السياسة) ويعني "سياسة الموت"، وهي كلمات مشتقة أساساً من اللغة اليونانية، ويشير بها إلى الطريقة التي تمارس فيها السلطات السياسية السلطة عبر السيطرة على حياة الأفراد والمجتمعات، وتقرير من يعيش ومن يموت لتحقيق السيطرة، بما يهدف إلى تحقيق مصالح استراتيجية أوسع. 

في حالتنا بمنطقة المشرق العربي الذي أطلق عليه الأمريكان مصطلح الشرق الأوسط، يبدو أن النيكروبوليتيكس تلعب دوراً حاسماً في تعزيز الهيمنة الصهيونية الإسرائيلية والأمريكية والحفاظ على قدرة تفوق ردعهم التي قد تصبح مهددة بفعل عوامل ومتغيرات جديدة، من خلال زعزعة استقرار المجتمعات الفلسطينية والعربية، وتدمير قدرتها على مقاومة مشاريعها.

إن العقيدة التي يروج لها نتنياهو والتي تتفق مع العقيدة المسيحية الصهيونية حول حرب هارماجدون بين ما يسميه الخير والشر بالعالم، تربط بين المفاهيم الدينية والسياسية، وتستغل نيكروبوليتيكس لإدارة الصراع في الشرق الأوسط. فمن خلال هذه الرؤية، يُعتبر الصراع الدائر جزءًا من تحقيق نبوءة دينية، ويتم استخدام القتل والعنف كأدوات لتحقيق هذا الهدف، ما يربط بين العقيدة المسيانية والنيكروبوليتيكس بشكل واضح.

تُعد غزة مثالاً حياً على تطبيق النيكروبوليتيكس من قبل الاحتلال الإسرائيلي ، بدعم أمريكي ضمني بل ومباشر.

 من خلال الحصار المستمر منذ أكثر من عشرين عاماً، والعمليات العسكرية المتكررة التي تتسبب في تدمير البنية التحتية وحياة المدنيين من خلال المجازر الجماعية البشعة، تسعى إسرائيل إلى تحقيق أهدافها الجيوسياسية عبر استخدام الموت كسلاح استراتيجي. السيطرة على حياة الفلسطينيين في غزة، من خلال قصفهم وتجويعهم وحرمانهم من الرعاية الصحية والموارد الأساسية يجعل البقاء على قيد الحياة معركة يومية، في مكان لم يعد صالحاً للحياة بفعل جرائم الاحتلال من الإبادة والاقتلاع العرقي.

الهدف النهائي وفق ذلك هو تحطيم الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، ودفعه نحو الهجرة أو الاستسلام. إسرائيل، بتواطؤ واضح من الولايات المتحدة كشريك استراتيجي، تتعامل مع غزة كأداة لفرض سيطرتها الجيوسياسية في المنطقة، وذلك عبر القضاء على أي تهديد مستقبلي لقدرتها على الهيمنة من خلال إعادة احتلالها لغزة بأشكال جديدة.

في الضفة الغربية بما فيها القدس بالطبع، تتبنى إسرائيل الاستعمارية والإحلالية سياسة النيكروبوليتيكس بشكل أكثر تدرجاً، من خلال الاستيطان والاعتقالات الجماعية والاغتيالات، كما حصل في نابلس طولكرم مؤخراً والهدم والترحيل والسيطرة على الموارد. هنا تُستخدم سياسة الموت بطرق غير مباشرة، حيث يتم تقليص حقوق شعبنا الفلسطيني وحريتهم في الحركة من خلال استنباط اشكال الكانتونات المحاصرة، ومنع التنمية بل وحتى في محاصرة السلطة الوطنية وجعلها دون سلطة. تهدف هذه السياسات إلى إرهاق شعبنا الفلسطيني وخلق ظروف تجعل الحياة غير محتملة وفق ما يجري، ما يؤدي إلى تهجير تدريجي دون الحاجة إلى صدام مباشر.

من خلال هذه الاستراتيجية، تهدف إسرائيل إلى السيطرة الكاملة على الأرض الفلسطينية التاريخية، ومحاولة تحقيق ما يُعرف بمشروع "إسرائيل الكبرى"، حيث تصبح المناطق الفلسطينية المحتلة مهجورة أو ضعيفة بما يكفي لفرض السيطرة التامة عليها، بل وفي أراضٍ أبعد من فلسطين كما يعلن غلاة الصهاينة اليوم لتصل لأجزاء من لبنان والأردن والعراق وسوريا. الدعم الأمريكي لهذه السياسات يتجلى في الدعم المطلق، والتمويل العسكري والغطاء السياسي الذي يمنح إسرائيل مساحة كبيرة للتحرك دون رادع دولي وفق محددات العلاقة الاستراتيجية بينهم وأهمها العقائدية، والتي للأسف ما زال هناك من يعتقد بإمكان تبدلها، فيسعون خلف سراب أمريكي.

أما في لبنان، فتستخدم إسرائيل النيكروبوليتيكس كوسيلة لتحجيم حزب الله وقاعدته وحاضنته الشعبية والاجتماعية، عبر الاغتيالات الجارية اليوم والضربات العسكرية والتوترات الحدودية. تحاول إسرائيل وضع حزب الله في موقف دفاعي دائم، ما يجعل المدنيين اللبنانيين عرضة للخطر المستمر كما يحدث من مجازر كان آخرها قبل يومين في وسط بيروت. هنا أيضا، يكون الهدف الجيوسياسي لإسرائيل هو إضعاف أية مقاومة محتملة قد تعيق مشاريعها التوسعية في المنطقة، بل ومحاولات القضاء عليها بما يستوجبه مشروع الشرق الاوسط الجديد، والذي ستفشل هي في تحقيقه نظراً للمتغيرات الجارية، واستهدافها من جهات وجبهات متعددة تستنزف قوة ردعها وتسارع من أزمات مجتمعها.

 

الدور الأمريكي يتجسد في الدعم العسكري والاستخباراتي لإسرائيل في هذه العمليات، وكذلك في الضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية وعلى الحكومة اللبنانية والأطراف السياسية فيها، بل وعلى الأطراف العربية بشكل عام سياسياً واقتصادياً للتراجع عن دعم أية حركات مقاومة حتى ثقافة المقاومة واستقلالية القرار الوطني التي قد تعرقل النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وممارسة كافة أشكال الضغط المختلفة عليهم لاعتبار إيران العدو الأول لهم بدلاً من دولة الاحتلال من أجل تسويق مشروعهم بالشرق الأوسط الجديد مقابل وعود سرابية جديدة لن تختلف عن سابقاتها المعهودة والتي لن تحمي أحداً أو تجعله خارج دائرة استهدافهم لاحقا. 

تتهدف سياسة النيكروبوليتيكس في النهاية إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي والديموغرافي في الشرق الأوسط لصالح هيمنة الولايات المتحدة وتفوق إسرائيل كدولة مارقة. وذلك من خلال القضاء على أية تهديدات محتملة واستخدام سياسات الموت كأداة ضغط، حيث تسعى إسرائيل إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين أو تهميشهم واستمرار قهرهم، بينما تعمل الولايات المتحدة على تأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة إضافة إلى حماية إسرائيل، بضمان الوصول إلى الموارد الحيوية مثل النفط والغاز وطرق التجارة والملاحة في محاولة لمنع تمدد النفوذ الصيني الاقتصادي والسياسي الروسي وإلى حد ما العسكري، وضمان استمرار الهيمنة العسكرية والسياسية الأمريكية.

لقد استخدم النازيون والفاشيون النيكروبوليتيكس خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت سياساتهم تجاه الأقليات العرقية في أوروبا بل وبحق كل شعوبها تعتمد بشكل كبير على التحكم في الحياة والموت. معسكرات الاعتقال والإبادة كانت مثالاً صارخاً على استخدام النيكروبوليتيكس، حيث تم استخدام الموت كأداة سياسية لإبادة مجموعات بأكملها وتحقيق أهداف أيديولوجية عنصرية وفوقية.

أما بالنسبة لنا نحن الفلسطينين، فيمكن القول إننا ضحايا لسياسات النيكروبوليتيكس من جانب الفاشيين الجدد. فإسرائيل والولايات المتحدة تستخدمان هذه الأداة لتحقيق مشروع طويل الأمد يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحهما الاستراتيجية، مهما كانت التكاليف الإنسانية التي لم تكترث لمثيلها الولايات المتحدة عبر تاريخ جرائمها باستخدام هذه الوسيلة القذرة حول العالم لبسط نفوذها، ولن تكترث لها اليوم أيضاً في ظل هذا النظام الدولي أحادي القطب. الأمر الذي يستوجب تحركاً جاداً اليوم من الصين وروسيا والقوى الأخرى الصاعدة والشعوب الحرة لحماية أصحاب الأرض الأصلانيين في منطقتنا والإسراع من أجل إنفاذ نظام دولي جديد متعدد الأقطاب يحقق العدالة والمساواة وتقرير المصير للشعوب، ويمنع مثل هذه السياسات الإجرامية من جهة، ومراجعة سياساتنا الفلسطينية والتوافق على رؤية موحدة ببرنامج واضح، وأدوات وطنية صادقة من خلال منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة لاستكمال مسيرة التحرر الوطني سنداً لفهم هذه الرؤى والمتغيرات الجارية.